(Paul L. Heck) بقلم
اليوم الرابع لكانون الثاني يناير 2018
سألني أحد عن القدس: ما هو رأيك؟ وأجبت: بذلك القرار أراد الرئيس إغضاب المسلم خارج الوطن لتخويف غير المسلم داخل الوطن من الإسلام وأهله وغضبه. ووقع الجميع في الفخ المسلم الذي غضب وغير المسلم الذي اعتقد أنه موقع الغضب
فسألني: ألا يقتضي الأمر غضباً؟ وأجبت: لا شك في ذلك فلا بد من الغضب ولكن الغضب له معانٍ ومن لا يعرفها ينخدع بغضبه عند ثورانه ولا يحقق الهدف منه. ويكثر من يستهدف غضب الشعوب لتوظيفه لأغراض خاصة
فسألني: وهل للغضب هدف فيما يخص المسلم وغير المسلم؟ وأجبت: الهدف من الغضب في ذلك هو الجمع بين المسلم وغير المسلم على ردّ ما يؤذي الجميع. ألا يهتم الجميع بالقدس قبلة الإنسان وعاصمة الأديان؟ ولكن الإعلام لم يدرك الأمر واكتفى بالكلام عن شعور المسلم بالانتقام. هل عرفتم ما أصدره مجلس الأساقفة في الولايات المتحدة من بيان فيه استنكروا قرار الرئيس؟ هل عرفتم أن الأغلبية الساحقة من اليهود في الولايات المتحدة لم تؤيد القرار حسب آخر استطلاع في الأمر؟
إن المسلم وغير المسلم على غاية واحدة في هذا الأمر متفقان على عدم الرضا بقرار في حق القدس لا يُجمع عليه الجميع فإن القدس أمر رباني لا يُستولى عليه. ولكن الإعلام أهمل خبر الأساقفة وخبر الاستطلاع فلم يفهم لا المسلم ولا غيره ما يدعو اليه الغضب من جمع الشمل فيما بينهما فوقع هذا في واد وذلك في واد آخر ما مكّن الرئيس من توظيف الغضب من أجل التفريق. هكذا فاتتنا فرصة لتقوية الروابط بين المسلم والمسيحي واليهودي عبر العالم إلا أن الغضب هذا انحرف عن أصله ولا أصاب هدفه في الجمع بين الطوائف بدل التفريق. ومن دون تقوية هذه الروابط عبر الديانات فإن الرئيس يبقى القوي علينا أجمعين
فقال: كلمْني عن الغضب. وأجبت: القصة طويلة وأفضّل النوم في هذه اللحظة فالساعة تأخرت. فغضب الأخ غضباً شديداً ووبّخني قائلاً: يحترق العالم بالغضب وتفضّل النوم؟ وأوضح مقصوده قائلاً: لا بد من التفكر في شخصيات العالم السياسية شرقاً وغرباً وما يقومون به لتوظيف غضب هذا الوطن أو ذاك لغرض خاص دون الصلاح العام. كما وظف الرئيس غضب الشعوب بشأن القدس لغرضه الخاص ونجح كذلك يوظف غيره من أصحاب القرار غضب الشعوب لغرض خاص دون الصلاح العام فلا وطن يخلي عن هذا الأمر. فمن يجهل مجاري الغضب السياسي يبقى قابلاً للانخداع. كلمْنا عن الغضب
ضاق قلبي بقوله وما فيه من الحق فأجبت: القصة طويلة لذا فأبدأ بقطعة منها ولكم البقية أنت وغيرك وسأسألكم في جلسة أخرى عما قمتم به من أجل كشف النقاب عن مجاري الغضب السياسي في عالمنا اليوم
سأركز فيما يلي على مشاعر الإنسان وما لها من فائدة في تحليل الأوضاع السياسية في عالمنا اليوم. غالباً ما لا تتجاوز تحليلات الأوضاع السياسية في بلد أو في آخر أمر السياسات والحركات: سياسات الدولة المالية والصحية والتعليمية والخارجية والعسكرية وحركات المجتمع يسارية كانت أو يمينية أو نسائية أو حقوقية الى آخره. هكذا يكتفي الباحث المتخصص في تحليل الأوضاع السياسية بالتركيز على سياسات وحركات ولا يلتفت الى ما قد يفيد تحليله من الاطلاع على مشاعر الوطن ومجاريه
سأعرض الفكرة تركيزاً على الغضب فيقال إن الغضب هو رأس المشاعر التي تسيّر الأوضاع السياسية. لذا سأذكر شيئاً عن هذا الغضب السياسي في الولايات المتحدة نموذجاً طبيعته أسبابه وعواقبه. وفي نفس الوقت لن أهمل ما للدين من رؤية في هذه المسألة وذلك لأن الدين لا ينفصل عن السياسة في أي بلد كان لأن الدين مهما كان فإنه لا ينفصل عن مشاعر الإنسان. وحتى لا يجهل أحد هذا الأمر فلا بد من قول عن مشاعر الإنسان ومقاصد الدين قبل الخوض في النقاش عن الغضب السياسي
هل يمكن الكلام عن المشاعر باعتبارها ظاهرة دينية؟ ليس الأمر واضحاً لأن معاني المشاعر ليست واضحة. قد أشعر بالحزن عند رؤية المتألم شعوراً يدفعني الى فعل الخير من أجله. أو قد أشعر بالغضب عند الشتيمة شعوراً يهيّج اضطراباً في النفس ما يرسّخ الحقد في القلب
إذن لا تتجاوب دواعي الوجدان كلها ومقاصد الدين. الوجدان هو عبارة عن انفعالات في النفس بها يدرك الإنسان ما يدور في محيطه كما بها يقيّم ما في محيطه من خير وشر كما بها يتفاعل مع ذلك كله إلا أن الأمر فيه إشكالية
على سبيل المثال قد أغضب وفي نفسي استقرار حين أسأل طالباً عن كسله. غضبي هذا له غاية محمودة هي إصلاح الطالب فتطمئنّ نفسي الى ذلك حتى في حالة الغضب. أو قد أغضب وفي نفسي اضطراب حين أشعر بأن الطالب لا يهابني ومكانتي أستاذاً. هذا الغضب هو لنفسي ولمكانتي فيبقى الاضطراب في نفسي فلا تطمئنّ بهذا الغضب
على ضوء مثل هذه المنطلقات يقوم علماء الدين وعالماته بتقييم المشاعر من حيث شرعيتها وعدم الشرعية. لا يركّزون على مظاهر المشاعر بالجسد بل يتطرقون الى الحالات وراء المظاهر وما تُثمره من ثمرات أخلاقية
مثلاً البكاء فإنه أشكال: البكاء من الحزن والبكاء من الفرح والبكاء من اليأس الى آخره. المظاهر بالجسد واحدة وهي الدموع. ولكن الحالات وراء المظاهر تختلف. قد يبكي أحد ليخدعني بدموعه فهي دموع الكاذب كما قد يبكي أحد من خيبة الأمل أو من فوات المحبوب بينما آخر يبكي من خشية الله أي من الاستشعار بعظمة الله وبعظمة رحمته ونعمته على خلقه أجمع. وفي أشكال البكاء كلها الظاهر واحد إلا أن ما وراء الظاهر يختلف. هكذا فإن أسباب المشاعر تكون فيها إشكالية
وكذلك عواقب المشاعر فإن المشاعر لها عواقب فيترك البكاء أثراً في القلب، أحياناً أثر سلبي وأحياناُ أثر إيجابي. لا تليّن القلب دموعُ الكاذب ولا ترققه ولا ترقيه ولا تهذبه وكذلك دموع اليائس. أما دموع من يبكي من الاستشعار بعظمة الله فتلك هي الدموع التي تليّن القلب بل تزيده رحمة
فلا بد من الانتباه الى شيئين فيما يخص مشاعر الإنسان ومقاصد الدين: الأول هو الإشكال فيما بين ظاهر المشاعر والشعور في النفس فقد يبكي الإنسان لنفسه وقد يبكي لله. والثاني هو ما للمشاعر من ثمرات إما صالحة تقوّي حالة الإنسان الأخلاقية والدينية وإما فاسدة تُضعبها. وبهذين الأمرين وغيرهما يذهب علماء الدين وعالماته الى ما يذهبون اليه من تقييم لِما في مشاعر الإنسان من وزن في مقاصد الدين. ويلخص الأمر ابن قيم الجوزية في قول له في بدائع الفوائد حيث يقول: فإذا رق القلب دمعت العين فإذا قسى القلب قحطت العين
لا شك في شرعية البكاء لأن الأنبياء جميعاً بكوا فلا بد من بحوث وتحليلات للحالات وراء دموع الأنبياء عليهم السلام وما لها من ثمرات أخلاقية. ويتلكم البابا فرنسيس عن الدموع بكونها هبة إلهية فيقول البابا إن الدموع هي ماء يطهّر القلب عندما تذرف العين تضامناً مع الفقير والمتألم والجائع واليائس واللاجئ وضحايا الحرب لأن مثل هذه الدموع تؤكد أن حقيقة الإنسان هي الأخوة في الله
بطبيعة الحال ليس الحزن بفريضة دينية ولكنه موضوع نوقش في كتب الدين حيث يُنظَر اليه بما له من دور في اهتداء الإنسان. يقول ابن قيم الجوزية إن الحزن يُضعف القلب فليس المحمود الحزن بل الصبر عليه فالحزن ليس بهدف ديني في حد ذاته بل وسيلة الى غاية حميدة هي تعزيز خُلق الصبر في القلب. كذلك يتكلم أبو القاسم الفشيري عن الحزن بكونه ما يُخرج الإنسان من وادي الغفلة فلا ينبغي أن يكون الإنسان حزيناً على فوات ما له في الدنيا وإنما ينبغي أن يكون حزيناً على كون الإنسان أسير الدنيا في حالة الافتراق عن ربه في الآخرة. وهذا الحزن الأخير هو الحزن الذي يُوقظ الإنسان من حالة الغفلة في الدنيا ما يقوّي شوقه الى لقاء الله في الأخرة
بالجملة فإن مشاعر الإنسان لها رابطة وثيقة بمقاصد الدين وإن لم تكن الرابطة واضحة في أول الأمر. إن مشاعر الإنسان لها وزن فيما يهدي الإنسان الى وجه الله ولكن ذلك لا يعني أن صلاحية المشاعر الأخلاقية تعود الى تربية دينية. ترجع المشاعر الى الفطرة الإنسانية التي يتقاسمها الجميع فمن له قلب سليم يغضب عند رؤية الظلم بغض النظر عن الانتماء الديني. كذلك من له قلب سليم يحزن عند رؤية الشر ويفرح عند رؤية الخير ويشعر بالألم بما يضره وباللذة بما ينفعه وذلك في حق الآخر كما في حق النفس. ويشعر الإنسان باللألم عند رؤية السلوك المذموم كما يشعر باللذة عند رؤية السلوك المحمود. نعم نحزن بل نتألم عند رؤية الإساءة الى الغير كما نفرح بل نتلذذ عند رؤية الإحسان الى الغير. هكذا توجّه مشاعر الفطرة سلوك الإنسان وتكوّن حالاته الأخلاقية حتى من دون تربية دينية
نعم يوضح الدين حقائق المشاعر ولكن المشاعر تميّل الإنسان الى تلك المعاني بما فيها من وزن في مقاصد الدين حتى من دون تربية دينية. فلا يحرّك المشاعر خطاب ديني لمجرد كونه خطاب ديني إذا لم يغذّي نفس الإنسان ولا يرقيها الى حقائق الله دون أكاذيب الدنيا. فمشاعر الإنسان لها فعالية في وصول الإنسان الى معرفة الخير والميل له بل الإستجابة له
وذلك هو مما يقرّ به الدين. وبما أن الأمر مرتبط بالفطرة الإنسانية فإنه مما يجمع بين بني بشر جميعاً جمعاً دينياً. مشاعر الإنسان بما لها من وزن في مقاصد الدين فإنها مما يجمع بين بني بشر جميعاً جمعاً دينياً. العقائد شيء والمشاعر شيء آخر ولكن المشاعر لا تقل أهمية عن العقائد فيما يهدي الإنسان الى وجه الله
والأن الغضب وما لتحليل المشاعر من فائدة في تحليل الأوضاع السياسية الراهنة في الولايات المتحدة نموذجاً. هذا الغضب السياسي ما هي سببيته؟ والإعلام هل يدرك تلك السببية في مقالاته وتقاريره؟ وما هو موقف الدين من الغضب في ميدان السياسة؟ وهل يلتفت الى معاني الغضب الدينية الإعلام في مقالاته وتقاريره عن الاوضاع السياسية؟
لا يُحصى عدد المقالات بل عدد الكتب في السنين الأخيرة حول سيادة الغضب في سياسة البلد. يتردد الكلام في الإعلام عن غضب السود وغضب البيض وغضب النساء وغضب المواطنين على المهاجرين. لاحظوا: في خطاب الإعلام ليس شعور الغضب بشيء يجمع بين فئات الوطن كلها بل شيء يخص الفئة فكل فئة لها ما تغضب عليه حسب خطاب الإعلام
ما هو غضب الفئة؟ تشير البحوث الى ما للغضب من فعالية في تكوين الفئة مهما كانت فليس الغضب شأن الفرد وحده وإنما يتكوّن الشعور بالغضب داخل الفئة بل الشعور بالغضب هو في حد ذاته ما يكوّن الفئة ويوجّهها توجيهاً اجتماعياً وسياسياً. بعبارة أخرى توجد فئة حين يجتمع أفرادها على شعور الغضب ولكن غضب الفئة وحده لا يكفي لتبرير قضيتها. وفي هذه النقطة تكمن الإشكالية فيما يخص شعور الغضب السياسي ومقاصد الدين
غضب الفئة هل يوجد لدفع أفرادها الى الكفاح من أجل قضية فيها خير للجميع أو يوجد لتبرير الفئة فقط. وما يزيد من الإشكالية هو أن الإعلام لا يدرك معنى للغضب إلا غضب الانتقام أي انتقام الفئة لمكانتها ولهويتها على بقية المجتمع. ذلك هو مفهوم الغضب الغالب في الإعلام ما يجعل المواطنين يعتقدون أن المقصود من الغضب هو أن يغضبون بعضهم على بعض. هكذا فإن الإعلام قصير النظر في الأمر ما يُكثر شبهات الفئات بعضها في بعض
مما لا شك فيه هو أن معنى الغضب الرائج في الإعلام يُعمي الوطن عن حقيقة الأسباب وراء غضبه السياسي فمَثَل الغضب هو مثل البكاء والحزن له أكثر من معنى فلماذا يركز الإعلام على معنى واحد ظناً منه أن الغضب لا معنى له إلا الانتقام؟
في الحقيقة تكثر معاني الغضب وسأذكر إثنين منها: الأول غضب يرجع الى الرغبة في الانتقام والثاني غضب يرجع الى الرغبة في الإصلاح أي إصلاح المجتمع
الأول هو غضب الانتقام ويصحبه اضطراب في النفس وهو عبارة عن العداوة على الغير بدل المحبة له كما يتعلق هذا الغضب بالمكانة في المجتمع أي مكانة الفئة فلا علاج لهذا الغضب إلا بإظهار مكانة الفئة على المجتمع فلا بد من الانتقام للفئة من كل ما يهدد مكانتها في الوطن. فهل تجد نفسك وفئتك أو قبيلتك أو طائفتك أو طبقتك داخل دائرة الغضب السياسي؟
في الحقيقة هذا الغضب لا يزيد المجتمع إلا اضطراباً يرسّخ الحقد في قلوب المواطنين بعضهم على بعض. وهذا هو معنى الغضب الرائج في الإعلام ولا يرقّي النفس لا نفس المواطن ولا نفس الوطن ككل بل يزيد الوطن انقساماً فما هو السبب وراء تركيز الإعلام على معنى يدّني النفس دون معانٍ قد ترقّيها؟
نعم قد يكون غضب الوطن هدّاماً للوطن نفسه وذلك هو غضب الانتقام. أما الغضب الثاني فهو غضب بنّاء يرجع الى الرغبة في الإصلاح ويصحبه الاستقرار في القلب بل الاطمئنان دون الاضطراب والانقسام. ولا يتحرك هذا الغضب انتقاماً للفئة بل دفاعاً عن صلاح الوطن العام محبة له لا عداوة عليه
ولكن الإعلام لا يستوعب هذ الغضب القادر على الجمع بين فئات الوطن كأن الإعلام ناقص العقل لا يفهم أصحابه إلا غضب يحرض على الفرقة والفتنة. أما الدين فيذمّ الغضب الأول ويحمد الثاني. وقد تناول الكثير من علماء الدين في أثناء القرون معاني الغضب أمثال تومى الأكويني وأبو حامد الغزالي. ويُجمعون علماء الدين من كل الطوائف على أن الغضب المذموم هو أن يغضب الإنسان انتقاماً لنفسه والغضب المحمود هو أن يغضب الإنسان غيرة على حقوق الله وحقوق العباد ودفع الأذاء عن نفسه أو عن غيره
وفيما يخص غضب الوطن في الولايات المتحدة فلم يكن في الأصل غضب الفئة (غضب فئوي) بل غضب الجميع من فشل مؤسسات الوطن. في العقود الأخيرة غضِبَ الجميع من كثرة الفضائح في المؤسسات الدينية ما أثار شبهات حول حالة الوطن الأخلاقية كما غضب الجميع من فساد المؤسسات المالية ما أدى بالوطن الى ركود ضرّ إلا الأثرياء كما غضب الجميع من المؤسسات السياسية التي غلبت عليها مصالح حزبية دون هموم الشعب
ورأى الشعب صلاح الوطن هو في واد ومؤسسات الوطن في واد آخر
هكذا اشتد غضب الوطن في أثناء العقود الأخيرة. مع ذلك تسارع أصحاب الأعلام في زمن الرئاستين الأخيرتين الى ربط غضب الوطن بالفئة عموماً وبالعرق خصوصاً. الغضب الأبيض الغضب الأسود غضب النساء غضب المواطنين على المهاجرين
إذن لا يلعب الإعلام دوره في توعية الوطن لِما يكون للغضب من معنى قد يُخرج الوطن من الانقسام. لذلك يبقى الوطن مستهدفاً من قبل رجال داخل الوطن وخارجه يسعون الى توظيف الغضب لغرض خاص دون الصلاح العام
لا يُنكر تاريخ العنصرية في الولايات المتحدة إلا أن ذلك التاريخ له مراحل مخلتفة بل تطورات في مشاعر الأبيض داخل موقفه من غيرالأبيض. اليوم يؤمن المواطن الأبيض بالمساواة العرقية فلماذا ما زالت العنصرية حاضرة في المجتمع؟
لا بد من الانتباه الى التغير في المشاعر داخل موقف الأبيض من غير الأبيض أثناء القرن السابق. في القرن التاسع عشر وذلك في الولايات الجنوبية فإن البيض رأوا في السود كياناً أدنى عرقياً واخلاقياً فلا بد من تجنبه حتى لا يقع التدنس به. في ذلك السياق لم يشعر بيض الجنوب بالغضب من وجود السود بل بالاشمئزاز. اليوم انتهى ذلك بزوال نظرية اللامساواة العرقية ولكن شعوراً جديداً من وجود السود رأى النور في تلك الولايات وهو الغضب بدل الاشمئزاز
اليوم هناك من البيض من يقبل المساواة العرقية ومع ذلك يغضب من وجود السود في المجتمع لأنه يرى أن الحكومة تفضّل غير البيض في سياساتها فيعتقد مثل أولئك البيض أن الحكومة تفضّل المواطن الأسود والمهاجر من المكسيك في توزيع المعونات والوظائف
لذلك يعتقد مثل أولئك البيض أن غير البيض كسالى لا يعرفون معنى الجهود الفردية فيتّكلون على الإعانات الحكومية التي تأتي من ضرائب يدفعها البيض. لهذا السبب فإن المواطن الذي يريد تقليص دور الحكومة في تدبير الشأن العام هو الأبيض الذي يعتقد أن الحكومة تتسارع الى إرضاء غير البيض لجلب الأصوات في وقت الانتخابات
نعم، في الأصل، غضب الوطن هو غضب الجميع من عجز المؤسسات وليس عبارة عن عداوة أصلية بين الأعراق ولكن الإعلام في خطابه لا يتجاوز غضب الفئة من دون إبراز الضوء على حقيقة الغضب وأسبابه في الأصل
وإذا لم يتجاوب معنى الغضب الإعلامي مع حقيقة الغضب في الوطن فيبقى الوطن جاهلاً بنفسه غير قادر على علاج ما يصيبه وذلك في الولايات المتحدة كما في غيرها
عموم الغضب عبر جميع الفئات هو الغضب من المؤسسات. في الحقيقة يريد الشعب كله أن يعمّ الصلاح الوطن أجمع. يؤيد الكثير من البيض قضية الأسود. يؤيد الكثير من المواطنين قضية المهاجرين. يكثر الرجال الذين يجاهدون من أجل قضية المرأة. ويطمئنّ الكثير من السود الى الانتماء الى الوطن الأمريكي ولا يرون في البيض عدواً لهم
لا يُنكر وجود المتطرف الذي يخاف على مكانة فئته في المجتمع فيسعى الى الانتقام لها على بقية المجتمع. وأبرز المتطرفين حالياً المتطرف الأبيض. في نظره تتعرض مكانة الأبيض في المجتمع الى خطر نتيجة للتغيرات الكبرى في تركيبات الوطن السكنية في العقود الأخيرة كما في نظره يرتبط عز الوطن بعز الأبيض الذي في زعمه يمثل السبب وراء ازدهار الوطن وعظمته قيمه ومؤسساته
فيغضب ذلك الأبيض من الحكومة التي فتحت الأبواب الى أمواج من مهاجرين غير بيض والتي في سياساتها تفضّل غير الأبيض على المواطن الأبيض. ومن الجدير بالذكر أن المتطرف الأبيض غالباً ما هو داخل طبقة العامل الفقير أي من يعمل ويعمل يعمل ويبقى فقيراً. فيُطرح السؤال هل يكون السبب وراء غضب الأبيض المتطرف هو فعلاً زوال الأفضلية البيضاء أو عجز مؤسسات الوطن عن الاعتناء بالعامل الفقير حتى يتمكن من الاستفادة من اقتصاد الوطن الذي هو اليوم أكثر ارتباطاً بشبكات عالمية منه بمصانع محلية فيها اطمأنّ العمال في الماضي الى مراعاة النقابات وهي ضعفت اليوم للغاية؟
كذلك يوجد المتطرف الأسود الذي يقول بأن الوطن عدوه بكونه وطن الأبيض الذي هدفه اضطهاد السود. وبالنسبة الى هذا المتطرف فتعود جميع المشاكل في المجتمعات السوداء منها نسبة الجريمة العالية ومنها نسبة السجين العالية عند الشباب الأسود فتعود في زعمه مشاكل السود كلها الى سياسات الوطن الأبيض الذي استعبد الرجل الأسود ولا يزال يسعى الى ذلك
ولكن الوطن الأبيض انتخب رئيساً أسود فيُطرح السؤال هل يكون السبب وراء غضب ذلك المتطرف الأسود هو فعلاً وجود البيض في حد ذاته أو عجز المؤسسات الوطنية عن الاعتناء بالعائلة السوداء حتى تتمكن من تربية أولادها على أخلاق سليمة والالتزام بالمدرسة والاستفادة منها؟ هل السبب وراء عداوة الشباب الأسود على المجتمع عنصرية عرقية داخل مؤسسات الوطن أو فشل تلك المؤسسات؟
يمكن القول إن السبب وراء غضب الأسود في الأصل هو السبب وراء غضب الأبيض في الأصل ليس غضب العرق بل الغضب من النظام. ولكن الإعلام بتركيزه على غضب الفئة يحول دون إدراك المواطن أبيض كان أو أسود أن غضب الجميع هو غضب واحد في الأصل وهو الغضب القادر على جمع الشمل أي الغضب الراغب في إصلاح الوطن لا الانتقام منه. وفشل الإعلام في هذا الأمر هو مما يجعل الوطن قابلا للانخداع من قبل من يستهدفه وغضبه لغرض خاص دون الصلاح العام
في الحقيقة غضب الوطن السياسي أمر قديم له جذور عميقة في تاريخ كل وطن ولكن معناه يتغير من مرحلة الى أخرى. مثلاً فيما يخص حرية التجمع في الولايات المتحدة وهي من حقوق المواطن الدستورية إلا أن الأصل في هذه الحرية هو طلب العدل. نعم في الأصل كان المقصود من هذه الحرية تزويد المواطن بوسيلة الى استرجاع حقه عند انتهاكه. لم يكن المقصود في الأصل إظهار الفخر بالفئة مكانتها وهويتها ولا إظهار العداوة على الفئات الأخرى
التجمع هو طريقة الى تقوية التزام افرد بقضية ولكن ما هي القضية؟ استرجاع الحقوق عند انتهاكها؟ إعلاء مكانة الفئة؟ الاستخفاف بالفئات الأخرى وشتمها؟ الظاهر اليوم هو أن التجمع لم يَعد المقصود منه طلب العدل بل الانتقام للفئة دون الدفاع عن الصلاح العام. البيض في حين التجمع هل يطلبون العدل والاعتناء بالعامل الفقير أبيض وغير أبيض الذي يلتجئ الى المخدرات هروباً من عجزه الاقتصادي؟ أو هل يطلبون الانتقام للأبيض بعد الرئاسة السوداء؟ والسود في حين التجمع هل يحتجون على التمييز في المجتمع؟ أو هل يستنكرون الأبيض والوطن بما ينسبون اليهما من أصل الشر في الدنيا؟
من حيث الفطرة الإنسانية التي يتقاسمها الجميع فإن الغضب إيجابي في الأصل. يحركنا الى دفع ما يضر صلاحنا كما به نتغلب على ما يحول دون أهدافنا فالطالب الكسول لا ينجح إلا بالغضب على كسله
أما موقف الدين فهو أخص من ذلك فالغضب الشرعي هو الغضب لله وحده لا الغضب للمكانة والهوية. والغضب لله هو الغضب على كل ما يؤذي خلق الله وكل ما يقلل من صلاح الإنسان بل الخلق كله. ويشير ابن تيمية الى ذلك في كتاب الاستقامة حيث يقول: لهذا كان القوي الشديد هو الذي يملك نفسه عند الغضب حتى يفعل ما يُصلح دون ما لا يصلح
ومن الجدير بالذكر أن هذا المعنى الديني للغضب يتجاوب مع معنى الوطن نفسه كما قد يغني النقاش عن معاني الغضب السياسي في الولايات المتحدة وفي غيرها. فليس الوطن مجرد مكان وإنما يمثل مشروعاً أخلاقياً. يوجد الوطن لمقصود هو صلاح المجتمع ما يولّد شعور الولاء للوطن عند الشعب. ويقول الجويني إمام الحرمين في غياث الأمم: فأما المساكن أي الوطن فإني أرى مسكن الرجل من أظهر ما تمسّ اليه حاجته. ولكن معنى الوطن هذا عرضة للزوال وذلك لأن معنى ضيق بل دني للغضب يغلب علينا في الإعلام وهو الانتقام للفئة دون معنى الغضب الديني وهو الغضب على ما يؤذي صلاح الجميع
إذن الغاية التي يوجد الوطن من أجلها وهي صلاح المجتمع فإنها لا تتحقق إلا على ضوء ما يقول الدين عن الغضب باعتباره ما يتحرك في الوجدان لدفع كل ما يؤذي خلق الرحمن. ومعنى الغضب الإعلامي الدني وهو المعنى السائد على الوطن اليوم وربما على العالم كله فإنه يُنسينا معنى الوطن بل يزيد من الاضطراب والانقسام في الساحة الوطنية
ومما يدل على ذلك الموقف الذي اتخذه في الشهور الأخيرة لاعبو كرة القدم الذين رفضوا الوقوف للنشيد الوطني في الملعب أمام الجماهير ما تسبب في أزمة وطنية. في الولايات المتحدة مبارايات كرة القدم لها رابطة وثيقة بالمشاعر الوطنية فرفض الوقوف للنشيد الوطني في الملعب يمثل تحدياً للوطن بل يشير الى رفض الولاء له
اختلفت ردود الفعل. استنكر البعض فعل اللاعبين باعتبارهم خونة للوطن فلا يجوز الغضب على رموز الوطن نفسها بينما البعض الآخر أيدهم باسم حق المواطن في حرية التعبير
في الحقيقة كشف الأمر عن الانقسام العميق في معنى الولاء للوطن. هل يجوز الغضب على الرموز التي تمثلنا ككل نحن كوطن؟ فلا بد من طرح سؤال ما طرحه الإعلام: غضب اللاعبين على الوطن ورموزه ماذا كانت الحالة وراء المظاهر: الغضب الذي يطلب العدل لجميع الوطن أو الغضب الذي يطلب الانتقام منه؟
هكذا طرحتُ عليكم مسألة كبيرة: تحليل مشاعر الإنسان بما في ذلك معاني المشاعر الدينية هل يفيدنا في الكشف عن الأشكاليات في أوضاع العالم السياسية اليوم؟ لكم التفكر في الأمر في وطنك وفي غيره. وأختم بقطعة من شعر الإمام الشافعي تخص الموضوع
وعين الرضا عن كل عيب كليلة ولكن عين السخط تبدي المساويا
ولست بهياب لمن لا يهابني ولست أرى للمرء ما لا يرى ليا
فإن تدن مني تدن منك مودتي وإن تنأ عني تلقني عنك نائيا
وكلانا غني عن أخيه حياته ونحن إذا متنا أشدّ تغانيا