(Paul L. Heck) بقلم
في كل عصر توجد قوى خفية وجلية هدفها التفريق بين المسيحيين والمسلمين وذلك ضد ما في الأمتين من قوى وطيدة تجمع بينهما على كلمةٍ سواء من حيث الإيمان بالله خالق الكون والتعامل بمكارم الأخلاق. فلا بد من طرح السؤال هل ننقاد نحن اليوم للقوى الأولى الشيطانية أو للأخرى الرحمانية؟ في هذا المقال يُلفت النظر الى أهمية هذا الأمر بما أن الدين نفسه رهينه
هل يسلم الدين أو يسقم؟ يرتهن الأمر بما بين المسلمين والمسيحيين من علاقة. وفي المسألة أمران. الأول بديهي هو استقرار المجتمع فيزدهر مجتمع أياً كان تعيش أقوامه شعباً واحداً يجمع بينها الاعتراف بالله الرحمن والالتزام بفعل الإحسان. نعم صلاحهم صلاح لكم. أما الأمر الآخر فليس واضحاً وضوح الشمس إلا أنه يفوق الأول وزناً هو أن الدين لم يَرِد إلا لرضاء الله فلا بد من السؤال عما يُرضي الله تعالى مما بين المسلمين والمسيحيين. الصداقة أو عدم الصداقة؟ الثقة أو عدم الثقة؟ الشعور بالألفة أو الشعور بالغربة؟ هل نُرضي الله بالفعل فيما بيننا؟ إن الدين نفسه رهين هذا الأمر قيمته بل مصداقيته
مما لا شك فيه هو أن المسلم ليس غريباً على المسيحي لا إيمانه ولا أخلاقه كما أن العكس هو صحيح فإن الألفة هي الأصل فيما بين الأمتين. تكثر الشواهد على ذلك من بينها ما يكشف عنه الباحث (نيكولاس دومانيس) في كتاب صدر له عام 2013 يلقي الضوء على الألفة بين المسيحيين والمسلمين في بلاد الأناضول (آسيا الصغرى) في عصر الحكم العثماني فعاشوا شعباً واحداً بل أحبّوا بعضهم بعضاً. ورغم الاختلاف في الهوية فإنهم أدركوا أن العناية الإلهية لا حد لها ولا نهاية فإنها تشمل الخلق كله
و
لا بد من التشديد على هذه النقطة. لم يعيشوا شعباً واحداً تهميشاً للدين بل تعزيزاً له. وينفي ذلك ما يذهب اليه الكثير من القول بأن السلام بين الأقوام في مجتمع أياً كان لا يحصل إلا بتهميش الدين. هكذا استجاب أولئك المسلمون والمسيحيون للدين ولتوجيهاته فأدركوا ما لهم من مقصود واحد هو الله تعالى ومطلوب واحد هو التعامل بالأخلاق الكريمة. ويستعرض صاحب الكتاب تفاصيل القصة بدقة فبفضل الدين لا غيره فإن أولئك المسيحيين والمسلمين لم ينظروا بعضهم الى بعض إلا نظر الصديق الى صاحبه. وليس ذلك المثل باستثناء فلا يخلو عن مثله عصر من العصور. ولا نتكلم كلاماً نظرياً وإنما نتكلم عما يعيشه مسيحيون ومسلمون على أرض الواقع حين يستجيبون لِما في الدين من الدعوة الى ما يُرضي الله. ومن يتابع هذا الأمر فإنه يضطر الى التساؤل حول ما في الدين من قوى تجعل من المسلمين والمسيحيين إخوة في الله. هل يمكن الكلام عن أخوة دينية تجمع بين مسيحيين ومسلمين بالرغم من الاختلاف في الهوية؟ يُدرس هذا الأمر وما له من أمثلة
في التاريخ والحاضر وما له من حقائق دينية
مع ذلك كله فإن الأمر غير ثابت ويدل على ذلك نفس الشاهد حيث أن تطورات الزمن السياسية أبعدت أولئك المسلمين والمسيحيين عن الأصل. نشبت حروب وطنية بل وطنوية في أوائل القرن العشرين دعت اليها حركات شددت على الهوية القومية باعتبارها الأصل في إنسانية الإنسان. هكذا تغيرت المقاييس عند أهل الأناضول فأصبح المسيحي يوناني الوطن في نظر المسلم بدلاً من الجار والصديق كما أصبح المسلم تركي الوطن في نظر المسيحي بدلاً من صاحبه وخليله. وتفككت روابط الألفة القديمة العمر إلا أن العداوة الحديثة العصر الناتجة عن الدعوة القومية لم تقوَ على ما كانوا قد عاشوه من خير. لا يُنكر ما وقع في ذلك العصر من مصائب أصابت الجميع منها القتل وسفك الدماء إلا أن المسيحيين والمسلمين الذين عاشوا في صحبة بعضهم ببعض لسنين طويلة لم ينسوا ذلك الخير الذي عرفوه بفضل الدين وما يدعوه اليه من التعامل بالإحسان
ويشهد هذا الشاهد من زمن غابر على أمر هامّ هو الإشكالية في نظر المسلمين والمسيحيين بعضهم الى بعض. الأصل هو الألفة وذلك بفضل الدين وما يعززه من التعامل بالأخلاق إلا أنه قد يتعرض الى التحريف والتشويش بسبب تطورات الزمن على مستوى العالم تثير تساؤلات حول وجود الخير بين الشعوب ما يؤثر على نظر المسيحيين والمسلمين بعضهم الى بعض على مستوى المحل. هكذا تعود تطورات عالمية بضرر على ما يعيشه مسلمون ومسيحيون من ألفة وثقة في المحل. لذلك تتسم العلاقة بين الأمتين بإشكالية. يعود الأصل الى الدين والأخلاق فلا يعرف المسلم نفسه ولا المسيحي نفسه إلا بالدين والأخلاق إلا أن قوى دنيوية خفية أو جلية تستهدف الدين وأخلاقه وكل ما يُرضي الله تعالى فلا بد لنا من الانتباه. هل ننظر بعضنا الى بعض على ما يُرضي الله وذلك هو الأصل فيما بيننا أو على ما تريده تلك القوى من التفريق بيننا ما يشوّه وجه الدين نفسه؟
ويصح القول إن ما نعيشه مسيحيون ومسلمون من تجارب شخصية في المحل من دون أثر الأخبار منها نزاعات قومية واضطرابات سياسية فإن تلك التجارب الشخصية تتجاوب مع الدين مقصوده ومطلوبه. لا بد من الاتطلاع على تطورات العالم إلا أن تطورات العالم شيء وتجاربنا الشخصية على أرض الواقع شيء آخر فلا يجوز الحكم فيما بيننا إلا بما نعيشه. هل نعامل الجار بما نسمع من أخبار في بلد آخر؟ في المحل يلتقي المسلم بالمسيحي والمسيحي بالمسلم على ما قد تربّيان عليه من الإحسان دون أثر من اضطرابات الزمان. وفي ذلك اللقاء يوجد ما يُرضي الله. وخير دليل على ذلك هو ما يشعر به عند اللقاء كل منهما من طمأنية في القلب. ومن يعرف التجربة لا ينفي الحقيقة. ولكن الأمر غير ثابت لأن أخبار العالم تُفسد ما هو سالم. عند مثل ذلك اللقاء قد يتأثر هذا أو ذاك بتلك الأخبار وما فيها من اضطرابات سياسية لا يعرفها لا هذا ولا ذاك إلا بالسماع ولا يعي لا هذا ولا ذاك بما فيها من أطماع دنيوية. هكذا قد ينحرف ما بينهما في الأصل. ومما لا يُنكر هو أن الإنسان خُلق ضعيفاً فتضترب نفسه بأخبار تُغضبه حتى تتشنج الأعصاب وتحتار الألباب ما قد يُنسيه أصله. هكذا قد ينسى المسيحيون والمسلمون ما يدعو اليه الدين نفسه من الحذر من الغضب فلا يعودون ينظرون بعضها الى بعض بالمحبة بل بالحمية وما فيها من عواطف سقيمة. لا يُنكر ما في الدنيا من أشرار إلا ان الإنسان يبقى صاحب الاختيار فولدتنا أمهاتنا أحرار. هل يحسن النظر الى غيرنا من الأقوام بما نعرفه من صحبته أو بما يتداول في الأخبار بما فيها من نزاعات واضطرابات بل أشرار؟ وما نطلبه نحن من غيرنا فإنه يطلبه منا
ليس الأمر بسهل إلا أن الدين لا يزال رهينه فتدعو قوى الدنيا الى العداوة فيما بيننا ما يحطّ من أمر الدين قيمته ومصداقيته فمن يجد في قلبه حتى ذرة من العداوة من حيث نظره الى قوم لم يلتقِ بأهله فإنه متورط فيما يشوّه وجه الدين ويحرّفه عن أصله
تكثر قوى الدنيا التي تهدف الى غرس العداوة فيما بيننا ما يقلل مما يُرضي الله تعالى فلا بد من جهود كبيرة لسد الباب أمام هذا الشرّ فعلى الكل أن يحاسب أمره. هل أنسب أنا الى قوم غير قومي وجود الشر في الدنيا؟ في الحقيقة ليس الشر إلا ما نكوّنه في القلب حين نتبادل التهم الباطلة ما يفتح الباب أمام الشيطان الى نشر الأكاذيب التي تكبر بها قواه فلا بد من الاعتراف بأننا مسيحيين ومسلمين غير بعيدين عن أعمال الشيطان حين نغفل عن الأصل ونتبادل التهم ما يدخل شبهات في نظر بعضنا الى بعض
يكشف كل من القرآن الكريم والكتاب المقدس عن هذه القوى التي تفسد سبيل الله. وفي سورة هود من القرآن الكريم يوجد القول (سبيل الله يبغونها عوجاً) ما يصدّق القول من أول سِفر النبي حبقوق في الكتاب المقدس (فيبرز الحق معوجاً). ولا يخفى على أحد ما يعوّج سبيل الله وهو الخلط بين سبيل الله وسبيل الدنيا. ومن يفتخر بقومه وشأنه فخراً غالياً فإنه يخلط بين سبيل الله وسبيل الدنيا وبين مجد الله ومجد الدنيا. ومن يمدح قومه مدحاً غالياً بل يحمده حمداً كثيراً فإنه يجعل من قومه ربه فيبرز الحق معوجاً. هذا ويزيد الأمر حيرةً ارتباطُه بالهوية. ما هي الهوية؟ هل تعود الهوية الى أمر ديني أو أمر دنيوي؟ مما لا شك فيه هو أن الدين شيء والهوية شيء آخر. ذلك من جهة ومن جهة أخرى لا بد من القول إن الدين له رؤية أخلاقية عامة وذلك لأن الدين لا ينحصر في قوم من الأقوام فمَثَل الدين مَثَل الأخلاق يشمل الخلق كله. وذلك على عكس الهوية فلا يعرفها إلا أصحابها دون غيرهم من الناس. ويمكن القول إن الدين الذي لا ينفصل عن الأخلاق فإنه هو ما يجمع بين الأقوام. أما الهوية فإنها تفرّق. هكذا يفترقون المسلمون والمسيحيون بالهوية ويجتمعون بالأخلاق. بطبيعة الحال لا يُحرم أحد من هويته بل لا يمكن ذلك إلا أن الهوية شيء والدين شيء آخر فلا يجوز للإنسان أن يتخذ هويته دينه لأن الخلط بين الأمرين يفسد سبيل الله بما أن الهوية تفرق بينما الدين بكونه الباعث على مكارم الأخلاق فإنه يجمع. فلا بد من طرح السؤال عما يغلب على نظر المسيحيين والمسلمين بعضهم الى بعض: الهوية أو الدين؟ في الحقيقة يغفلنا عن الأصل الغلو في الهوية بل يوقعنا في فخ القوى الشيطانية التي تسعى الى الإخلال بالدين وبقدرته على نشر الألفة فيما بين المسلمين والمسيحيين. ماذا يُرضي الله تعالى فيما بيننا الفخر بالهوية أو التعامل بالأخلاق؟
وفي الأمر شرك خفي. هل نُشرك سبيلنا بسبيل الله؟ هل نُشرك هويتنا بدين الله؟ هل نفتخر بسبيل الله أو بسبيل قومنا دون غيره؟ ويصح القول إن من يفتخر بسبيله فإنه في الحقيقة يحسد وجود غيره. أما من يفتخر بسبيل الله فإنه يفرح بوجود غيره. الأمر بسيط. من يفتخر بسبيله فلا يتحمل فخر غيره لإنه يرى في غيره من خير ما يريده لنفسه ولكن من يفتخر بسبيل الله فماذا يمكنه حسده؟ لذلك يمكن القول إن افتخار كل من المسيحيين والمسلمين بسبيل الله فإنه هو ما يجمع بين الأمتين. والأصل في الأمر هو فرح المسلم بوجود المسيحي وفرح المسيحي بوجود المسلم لأن سبيل الله تفضل على سبيل النفس وعلى سبيل الهوية إلا لمن يبتغي سبيل الله عوجاً
ويشير الى هذه الأمور الكثير من رجال الدين ويحذرون من الخلط بين سبيل الله وما في الدنيا من قوى سبيلها غير سبيل الله. لا يدعون الى الانقلاب على الحكم لأن الدين يقرّ بالحكم بما فيه من قوة دنيوة هدفها حفظ الصلاح العام. أما الفساد في سبيل الله فإنه يحصل عند نزول الغفلة على قلب المؤمن، أي الغفلة عن معاني القوة ومقاصدها فإن القوة في حد ذاتها لا تمثل سبيل الله ولكنها توجد لحفظها. هكذا فإن القوة ليست إلا وسيلة الى غاية هي حفظ الصلاح العام. مع ذلك يختلط الأمر كثيراً ما فنتبدل الغاية بالوسيلة ما يفسد سواء السبيل. القوة هي الوسيلة والغاية هي حفظ الصلاح العام إلا أننا نفتخر بما عندنا من قوة. هكذا ينقلب الأمر وتتحول الوسيلة الى الغاية. والغريب في الأمر هو أن الشعب نفسه يستسلم للفكرة بل يتحمس لها لأن الإنسان ضعيف ومن طبائعه الافتخار بما يمجد نفسه وبما عنده من قوة. هكذا يتحمس الشعب أياً كان لظهور القوة عنده حتى ضد الشعب نفسه بل يجعلها مكان الحق ما يفتح الباب الى بروز أكبر كذب يغلب على بني بشر هو أن القوة في حد ذاتها تمثل الحق. الأمر بسيط. يريد الشعب أياً كان أن يُعلى شأنه تمجيداً لنفسه ما يسهل الخلط بين أمرين الأول خاص هو شأن الشعب من حيث هويته وخصائصه والآخر أمر عام هو شأن الحق الذي لا يخص شعباً دون غيره. ولهذا السبب ينخدع الشعب بكذب يصعب أن يُغالب هو أن القوة هي ما ينبغي للإنسان أن يعبده بدلاً من الحق تعالى ما يجعل من القوة الدنيوية إلهاً دنيوياً يتضرع اليه الشعب ويتحمس لظهورها حتى ضد الشعب نفسه. ولو لا الدين لقد فسد الأمر كله. ألم يدعوا المسيحيون الأوائل الى ترك الخشوع أمام القوة الرومانية وآلهتها؟ ألم يدعوا المسلمون الأوائل الى ترك الخشوع أمام قوة القريش وآلهتها؟ هكذا يوجد الدين لفضح هذا الكذب الغالب على بني بشر. لا يدعو الدين الى الانقلاب على الحكم لأن ذلك يفتح الباب الى الفتنة ولكنه يدعو الى ترك الخلط بين ما للقوة وما لله حتى لا نتخذ القوة إلهاً
وممن نبّه الى هذا الأمر رجل من رجال الدين اسمه تاج الدين السبكي عاش في القرن الرابع عشر للميلاد الثامن للهجرة وفي ذلك العصر كانت دولة عسكرية قد استعلت على بلاد الشام ومصر هي دولة المماليك. من الجدير بالذكر أن السبكي لا يختلف عما ذهب اليه القديس أغستين في القرن الرابع للميلاد من الحذر من الخلط بين مجد القوة الرومانية وأعمال الكنيسة. كذلك حذر السبكي من مثل ذلك الخلط. لا بد من القول إنه أقرّ بالحكم ودور السلاطين في يومه في حفظ الصلاح العام كما أقرّ أغستين بالحكم ودور الأباطرة في يومه في حفظ الصلاح العام إلا أن كلاً منهما حذر من الخلط بين سبيل القوة وسبيل الله
وفي كتاب عنوانه معيد النعم ومبيد النقم فإن السبكي يخاطب من يجعل من سبيل الله، اي الشريعة، خطة سياسية إلهية. لا يُنكر أن زمن السبكي اعترته الحيرة بما أن جيوش المغول كانت قد اجتاحت البلاد قضاء على الخلافة العباسية في بغداد. لذلك اعتقد البعض أن الله تعالى كان قد خذل الأمة. وما يلفت النظر في ذلك الزمن الخلط بين سبيل القوة وسبيل الله في قول البعض إن ضعف الأمة أمام المغول يدلّ على غضب الله. هل يدلّ أمر دنيوي على أمر إلهي؟ قال عدد من العلماء في ذلك الزمن إن الاضطراب في الدنيا يُعلم بسخط الله على الأمة. لذلك ذهبوا الى ما لم يذهب اليه أحد من العلماء من قبل فدعوا الى تسليط الساسة على سبيل الله من أجل تطبيق الشريعة بالقوة ظناً أن ذلك سيُعيد الأمة الى رضاء الله. ولكن الأمر انتهى بالمزيد من الحيرة لأن تسليط الساسة على سبيل الله يجعل مما يتصارع عليه الساسة في سبيل القوة معركة إلهية فيها تتبادل التهم وأقوال التكفير. ومن يخلط بين سبيل القوة وسبيل الله فإنه يعتقد أن خصمه في الميدان عدو الله بل طاغوت من طواغيت الشيطان. قد يطرح السؤال أليس من لا يطبّق سبيل الله من الساسة على مسلك الطاغوت؟ يخفى الإشكال في هذا السؤال وهو الافتراض أن القوة الدنيوية تمثّل حكم الله ما يبرّر القول إن القوة بكونها قوة فإنها تحكم باسم الدين. ألم يدّعِ ذلك السلاطين من أهل القريش وأهل الروم وغيرهم؟ الأمر خفي فلا بد من التمييز بين أمرين. الادّعاء أن القوة بكونها قوة تحكم باسم الدين فإنه مما يفسد الدين ولكن ذلك لا يعني أن الدين لا دور له في المجتمع فإن الفصل بين الإله الدنوي (أي القوة) والإله الحقيقي لا يعني تهميش الدين فلا بد للمسيحيين وللمسلمين من محاربة الشر في المجتمع والدعوة الى الخير وذلك باسم واهب الخير ولكن الافتراض أن القوة بكونها قوة هي الحاكمة باسم الله فإن ذلك يعوّج سبيل الله. وفي مجتمع يعرف أهله الحرية فإنه من حق المؤمن مسيحياً أو مسلماً أو غيرهما أن يجاهد في سبيل الله ليبرز الحقُ سليماً فيما يخص الصلاح العام فهل يُهمّش ما ينفع المجتمع ويصلح شأنه؟ وهكذا يمكن القول إن الدين شيء يُصلح وتسليط الساسة على سبيل الله شيء آخر يُفسد. على الحكام حفظ الصلاح العام دون السلطة على سبيل الله لأن سبيل الله يبغونها عوجاً
وجاء تاج الدين السبكي وردّ على الإشكال. لم يدعُ الى الخروج على الحكم بل الى المعروف. هكذا أوضح أن سبيل الله شيء وسبيل الدنيا وقواها شيء آخر. احتجّ السبكي مثل أغستين قبله بأن الدين شأنه التعامل بالأخلاق بما في ذلك من ضوابط يتأدب بها الولاة. من ناحية لم يدعُ الى الخروج لأنه أدرك أن الحكم فيه خير طالما يُجري مجاريه على رأسها حفظ الصلاح العام. ومن ناحية أخرى لم يجهل السبكي ما في طبع الإنسان من ضعف يدفعه الى إعلاء شأنه على حساب الصلاح العام فإنه لاحظ عند سلوك الولاة ما يخالف المطلوب. خلطوا بين ما للقوة من مقاصد وما لهم من مطامع فجعلوا القوة مكان الحق. لذلك شدد السبكي على معاني الدين بما يخص الشأن العام منها ردع الساسة من استغلال الضعيف وإذاء الرعايا. هكذا لعب السبكي دور الناصح في كتابه السلف الذكر تأكيداً لأن القوة لا تصلح إلا بقدر ما تستجيب لمعاني الدين منها ما يطلبه من الولاة من مكارم الأخلاق
وركز السبكي في أول الكتاب على شكر الله بكونه واجباً على الجميع كما هو مما يصلح المجتمع بما أن الشكر ليس بأمر باطن فإن إظهاره واجب فيما يعمله كل إنسان في ممارسة مهنته علية كانت أو دنية. ولا يستثني السبكي أحداً في الأمر فيجب على الولاة إظهار الشكر فيما يتولاه من تدبير الشأن العام. وما يدل على أداء هذا الواجب تدبير الشأن العام بما يُرضي الله بما في ذلك حفظ حقوق الشعب وترك الحكم بالهوى والجشع فيما يخص أملاك الرعايا. كذلك يقول السبكي إن إظهار الشكر هذا يوجب على الساسة الحكم بالعدل بل الحكم بالرحمة واللين وذلك لأن القوة لم تَرِد لمجد أصحابها بل للعناية بخلق الله فلا يعطي الله الملك لمن يشاء حتى يتسلط على غيره بالبطش. ألا يعرف القوي نعمة الله ورحمته تعالى؟ فلا بد له من إظهار الشكر على ذلك في سلوكه بما فيه اللين في الحكم لأن لين الولاة قد يتسبب في توبة من ضل عن السبيل. أما الحاكم الذي يعاقب بالشدة والبطش ويتسارع الى إهانة المعاقب عليه فإنه يسعى في ذلك لإظهار سلطته على غيره ما يخلّ بسبيل الله بما فيها من الذكر برحمته تعالى. إن الحكم العادل شيء والتشدد في الحكم على الشعب شيء آخر. ولا يعطي الله الملك لمن يشاء حتى يتصرف بالأموال العامة كما يشاء. والحاكم الذي ينفق على بيوت العبادة ويطلب من شاعر مدحه على كرمه فإنه يخلط بين مجد الله ومجده هو. يقول السبكي قولاً نفيساً هو أن الولاة يجب أن يتسارعوا الى الدفاع عن الفقير من أهل البلاد لأن الفلاح ليس من عباد الولاة وإنما هو حر بل أمير نفسه. ذلك ولا يخاطب السبكي الولاة فقط بل الشعب أيضاً لأن الشعب متورط في إفساد سبيل الله بما أنه يُسرّ بظهور القوة وحتى بظهور البطش والعنف. على سبيل المثال يقول السبكي إن الشعب يرتاح الى عقوبة تتعدى حدود الله وذلك إهانة للمعاقب عليه. والغريب في الأمر هو أن الشعب يفضل ذلك على حكم يُرجع الضال الى سبيل الله من حيث التوبة والإصلاح لأن الشعب يريد ما يمكن الافتخار به من ظهور القوة ما يرى فيه من مجده هو. هل نفضل ظهور القوة وحتى البطش والعنف على سبيل الله وما فيها من لين ورحمة فالإنسان يبتغي سبيل الله عوجاً لأنه يبتغي ما يفتخر به من قوى الدنيا حتى وإن تبين له أن البطش والعنف ليسا على شيء من سبيل الله. ومن الجدير بالذكر أن القديس أغستين يشير الى الأمر نفسه. لم يدعُ المسيحيين في زمنه الى هجر الدنيا ولا الى ترك مناصب الحكم وإنما دعاهم الى إظهار ما أنعم الله عليهم من نعمة فإن من يلين قلبه برحمة الله فإنه مدعو الى إظهار مثله في الشأن العام والتعامل مع غيره. فلنُظهر في سلوكنا ما أدركناه من نعمة الله ورحمته في قلوبنا
في هذا الكلام كله دعوة الى حكمة لا بد من الاعتبار بها. ولا يخفى أن الشباب اليوم يبحث عن هدف يعلو المطامع الشخصية إلا أنه لا يرى إلا استعلاء القليل على مال الكثير. لذلك يتسائل الشباب اليوم حول من يجاهد في سبيل الله بماله وبنفسه من أجل الصلاح العام. هكذا لا يصعب إخداع الشباب بظهور القوة أية كانت وما يدّعيه أصحابها من الاستيلاء على سبيل الله. هكذا ينخدع الشباب بظهور القوة والبطش والعنف إلا أن الأمر لا ينتهي إلا بخلط سبيل الله بالعرق والوطن والتنظيم ضد الأعراق الأخرى والأوطان الأخرى والتنظيمات الأخرى وذلك لأن الهوية باتت المعبود فيسهل إيقاع الشباب في الفخ وإقناعه بصلاحية البطش والعنف دفاعاً عن الهوية بدلاً من التعامل بالأخلاق الكريمة. هل نستجيب الى هوية تخص القليل أو الى أخلاق كريمة تعمّ الجميع؟ إن صلاح الدين رهين الأمر
ماذا يمكن للمسيحيين وللمسلمين القيام به للقضاء على هذا الشر؟ أولاً وقبل كل شيء لا بد من تعزيز التفكر فيما يُرضي الله تعالى ما يخلّصنا من نشأة الحقد في القلب في زمن الغفلة حتى لا ننسى الأصل فيما بيننا. بالإضافة الى ذلك فإنني أقترح أمرين قد يقوم بهما جميع المسيحيين والمسلمين في سبيل الله ونشر السلام فيما بين الأقوام. الأول هو الدعاء بعضهم لبعض. لا يصلّي المسلمون في الكنيسة ولا يصلّي المسيحيون في المسجد إلا ان الدعاء شيء آخر فيستطيع المسلم الدعاء لحاجة المسيحي والمسيحي لحاجة المسلم. الأمر بسيط إلا أنه مثمر للغاية. وأعرف ذلك من تجاربي الشخصية. بالدعاء بعضنا لبعض يدخل المسلمون في قلوب المسيحيين ويدخل المسيحيون في قلوب المسلمين. والأمر الآخر هو تفعيل حكمتنا المشتركة فيمكن أن يجتمع من يريد من مسيحيين ومسلمين ليناقشوا حكمتنا المشتركة عند أمثال تاج الدين السبكي والقديس أغستين كشفاً عما لدينا من التزامات أخلاقية مشتركة تحمينا من الوقوع في صراع الهويات وتخلّصنا من الخلط بين سبلنا العوجاء وسبيل الله السوية