(Paul L.Heck) بقلم
الطاعة بلا أخلاق … لا شيء. هكذا افتتح الجلسة صاحبها، وقصد بذلك القول أن الطاعة لله لا شيء دون أن تصحبها حالة أخلاقية ودون أن تزيده إياها
بتلك الجلسة المنعقدة 20 شوال 1440ه الموافق ل24 يونيو 2019م اختتمت سنة دراسية قضيتها بكلية أصول الدين في تطوان المغرب بصحبة الأساتذة الأحباء والطلبة الأعزاء. قد نسميها سنة المغامرة العلمية. هل حصلت من قبل مثل هذه الصحبة العلمية بين أهل الكلية وأهل الأديان الأخرى؟ قد يخاف البعض على دينه من مثل هذه المبادرة. هل يوجد مكان للآخر داخل الذات؟ نعم، قد يخاف البعض
بهذه الجلسة لم تختتم سنة دراسية فقط بل رحلة في دار الإنسان قد انطلقت في المشرق لتنتهي في المغرب، جمعت بينني وبين أنواع من بني آدم. ولا اسميها مجرد رحلة في الأخوة الإنسانية لأن العبارة لا تكفي لوصف حقيقة الأمر. لذا فأسميها رحلة في أخوة الإحسان. وستأتي كلمة عن ذلك
وتتويجاً للسنة الدراسية اختار أهل الكلية موضوعاً للنقاش هو وزن الأخلاق في تقوية الصحبة بين أهل الإيمان من كل الأديان. هل توجد أمة أو ملة لا يعرف أهلها الأخلاق؟ هل يوجد شعب لا يهديه الله الى حسن الأخلاق؟
وقال أستاذ من الزملاء الكرام : “ليست الأخلاق من تكميلات الحياة بل من ضروراتها.” وعلى ذلك المنوال قال صاحب الجلسة : “الأخلاق هي من أصول الدين، القاصر أخلاقه هو القاصر إيمانه
ويُطرح السؤال : ما هي الأخلاق التي كرّم الله بني آدم بها؟ وما هو المقصود منها؟ أليس هو تعالى خالق الناس بخُلْق حسن؟ لماذا كرّم الله بني آدم أجمعين بحسن الأخلاق ولم يخصص شعباً من الشعوب بها؟
وفي النهاية دعاني الزملاء أن أذكر كلمة في الموضوع. وهكذا توكلت على الله قائلاً ما يلي: “السلام عليكم ورحمة الله. هذه السنة عشنا حياة مشتركة هي حياة مشتركة الأخلاق، وذلك في قاعة التدريس بالكلية وكذلك في جلسات حميمية في مقاهي المدينة وبيوتها. ناقشنا الكثير من مسائل علمية كما تحدثنا عن الكثير من مواضيع دينية
وطلب العلم بلا أخلاق … لا شيء. لو لا الأخلاق المشتركة لَما أمكن تحقيق هذه الصحبة العلمية فيما بيننا ولا حصل نفع مما قصدنا اليه هذه السنة من طلب العلم في معاني الأديان. وذلك كله هو مما مست الحاجة اليه اليوم : إظهار الصحبة العلمية بين أهل الأديان
ودعوني أقول إن هذه التجربة معكم هذه السنة في رحاب الكلية لم تأتِ صدفة بل هي آخر محطة في سلسلة من التجارب عشتها مع الإخوة المسلمين والأخوات المسلمات
ثلاثين سنة وأنا أصاحب أهل الدين الحنيف في بلدان مختلفة، منها جزيرة العرب وبلاد الشام وبلاد المغرب. تكونت الصداقة الأولى بأخ مسلم في سنة 1989 بإنجلترا، ومنذئذ كثرت الصداقات، ليختتم الأمر معكم. تصوروا … ثلاثين سنة
ولا بد من ذكر الإخوة العرب المسيحيين الذين شاركوني الثقافة العربية. ينتمون اليها كما ينتمون اليها إخوتهم العرب المسلمون بل يعتزون بها. فلا ينكر دور العروبة المسيحية في تقوية التعارف فيما بين المسيحيين والمسلمين، وفي هذا الشأن لا بد من ذكر الإسلام الأمريكي هو الآخر
ويطرح السؤال نفسه : ما كان السبب وراء ذلك – مسيحي يصاحب الإخوة المسلمين ثلاثين سنة؟ اقول : الإحسان. هم أحسنوا اليّ في كل مرحلة من مراحل الرحلة. أحسنوا الظن اليّ، أحسنوا الأدب اليّ، أحسنوا الصحبة اليّ، وأنا بدوري قمت بمثل ذلك
الإحسان له معانٍ، منها الإتقان والبر بالوالدين والصدقة على المسكين، ومنها ترك المعاملة بالمثل، ترك الرد على الشر بالشر حتى لا يتداول الشر في المجتمع. ولا يعني ذلك الأخير الضعف بل القوة. لا يترك المعاملة بالمثل إلا القوي بالله تعالى
وهذه المعاني كلها مشتركة، يعرفها أهل الأديان السموية جميعاً
هكذا، بفضل الإحسان، تكونت صداقة، بل ترسخت أخوة، بينني وبين أصحابي من الدين الحنيف. ولم يتم الأمر إلا بمشاركة بعضنا بعضاً ما يدور في القلب من الإيمان بالله، دواعيه معانيه مقاصده. بعبارة أخرى لم تترسخ هذه الأخوة المسيحية الإسلامية إلا بفضل الكلام عن الإيمان، دون تركه جانباً، بل بمشاركة بعضنا بعضاً الخواطر والمشاعر التي نقدّمها الى وجه الله كل يوم، حين السراء وحين الضراء
غريب وعجيب : تحصل الصحبة المسيحية الإسلامية بل تترسخ بمشاركة الإيمان … شرط الإحسان
بفضل الإحسان تنكون أخوة هي عبارة عن مجال للاستماع بعضنا الى بعض، مجال للإصغاء بعضنا الى بعض، والإصغاء هو الاستماع الى الآخر بحضور القلب، بل يفتح الأحسان مجالاً للإنصات بعضنا الى بعض، وبالإنصات نخصص مكاناً للآخر في القلب
هكذا قد يقال إن الأخوة التي تتكون بفضل الإحسان هي مجال للاكتشاف عن طريق الاختلاف، ما يثمر عن الائتلاف بل الاعتراف عاجلاً أو آجلاً. هل لا أعترف بالخير عند الغير وهو يحسن اليه كل الإحسان؟
ولا يطلب الاعتراف الذوبان في الآخر بل الفرح بوجوده وما لديه من حظ في خيرية الخالق
ويوماً من الأيام سألتهم : لماذا تحسنون الينا الى هذه الدرجة؟ قالوا … الإسلام. لذلك بدأت أعظّم الله، ولا أحلى من تعظيم الله، لِما يحسن اليهم من الإسلام، وذلك من دون التنازل عن شيء مما أكون عليه من دين الله. هل ينكر أحد ما يراه على أرض الواقع؟ أحسن الله تعالى الى أصحابي المسلمين بما فطرهم عليه وبما رزقهم به وبما هداهم اليه من الإحسان وذلك بالإسلام
وهم بدورهم سألونا أنا والإخوة المسيحيين : لماذا تحسنون الينا الى هذه الدرجة؟ قلت … المسيحية. لذلك بدأوا يعظمون الله لِما أحسن الينا من المسيحية. هل يقال إن دين الآخر باطل وهو على الخير بل يفعل الخير، وذلك بالإتقان؟ أحسن الله تعالى الينا المسيحيين كما أحسن الى الآخرين بما فطرنا عليه وبما رزقنا به وبما هدانا اليه من الإحسان وذلك بالمسيحية
لا يعني ذلك زوال الاختلافية لأن الاختلافية هي من السنن الكونية فلا بد من الحفاظ عليها، وفيها غنى. بالصحبة بالإحسان لا تزول الاختلافية بل الغيرية، وفي الحقيقة من ينظر الى الآخر نظرة الغيرية لقد ترك الإحسان بلا الإيمان. هل يدل على محبة الله في القلب إلا الإحسان الى خلقه تعالى؟
ولا بد من التفكر في هذا الأمر. يحسن المسلم الى غيره بما أحسن الله اليه من الإسلام، وكذلك المسيحي بما أحسن الله اليه من المسيحية. وقد نضيف اليهودية. ماذا نخلص اليه من ذلك من مقاصد الله؟ هل تحصل الحالة الإحسانية إلا وراءها قوة ربانية
لا يكفي القول إننا إحوة في الإنسانية لوصف ما عشته من رحلة لمدة ثلاثين سنة. لذلك أتكلم عن الأخوة بالإحسان أو ما أسميه حلف الفضائل. لماذا كرمنا الله جميعاً بمكارم الأخلاق، وعلى رأسها الإحسان، وذلك في الأديان السموية كلها؟
يتساءل الكثير اليوم : هل يجمع الدين بيننا أو يفرّق؟
ولا أعرف أنا إلا الصحبة المسيحية الإسلامية. لذلك، في هذا العصر وهو عصر الحير، أراهن أمري على هذه الصحبة، بل أراهن أمر الكنيسة عليها، وكذلك أمر الأمة، بل الخير كله. ألا يقول كل من المسيحيين والمسلمين وكذلك الإخوة اليهود إن الله تعالى هو أول المحسنين؟ وغني عن القول إن الإحسان يدخل فيه الغفران
بعد الجلسة تقرّب أحد من الحضور وسألني : كيف يتم الأمر في المسيحية؟ في الإسلام نقول إن الله يحب المحسنين بل نقول إن الله أحسن الينا، أحسن تقويم الإنسان، لذا نكرم الإنسان لِما أحسنه الله اليه من إحسانه تعالى. ماذا تقولون في المسيحية؟
أجبت له : مثل ذلك. نكرم الإنسان لِما أحسنه الله اليه من إحسانه تعالى، وفي المسيحية نرى في المسيح مكاشف الأمر بحياته ورسالته. وفي ذلك أمران. الأول هو الجمع بين إحسان الله ورضاه فإن الرضا قرين الإحسان. هل يحسن من لا يرضى؟ والثاني هو الإشارة الى المسيح في روايات عديدة بكونه موقع الرضا، ما يكشف عن كون الإنسانية موقع الرضا. على ذلك المنوال يجمع المؤمن بالمسيح، وذلك بالوجدان، بين إنسانية الآخر وإنسانية المسيح، بحيث يرى في الآخر من يرضى الله تعالى عنه. مثلنا في هذا الأمر مثلكم فيه، نكرم الإنسان لِما أحسنه الله إليه من إحسانه تعالى، وذلك للكشف عن رضاه تعالى عما خلقه بل لإبرازه لأن الإنسان غافل ينساه كثيراً ما
تنتظركم القافلة. لا تترددوا ولا تخافوا بل صاحبوا الإخوة والأخوات بالإحسان، لن تفقدوا من شيء بل ستكسبوا كل شيء