بقلم د. محمد الغرضوف باحث في الفكر الإسلامي
بارقة أمل
تأتي لحظات وفرص في تجارب الحياة تستطيع بعفويتها وبساطتها أن ترسم على وجهك ابتسامة الأمل في استفادة رمز الوجود الإنساني بإعلاء هذا البعد … وأعتقد أن من هذه اللحظات بامتياز ما تقوم به منظمة الأرش (الفُلك بالفرنسية) والتي تعكس هذا البعد بشكل كبير؛ وهي بالمناسبة منظمة أسسها جان فانْيِيه تقوم باحتضان المعاقين ذهنيا والأحقّ تسميتهم بالمختلفين ذهنيا بحيث يعيش عدد منهم مع من يُعتبرون بأناس عاديين في بيت واحد على شكل أسرة يتعاونون على أعباء الحياة
الفكرة تكمن في اعتبار هؤلاء أناس عاديين قابلين للعيش معهم والتعاون معهم بدون نظرة استعلائية أو شفقة أو تفضّل كما هو حاصل في بعض الأوساط المتخلفة للأسف الشديد؛ بل منهم من يعمل ويحصل قوت يومه، طالما أننا نستطيع استثمار وبلورة الاستعدادات الكامنة فيهم لعمل الكثير وإنجاز ما لا يمكن تخيّله من هؤلاء
وهذا ما استنتجناه لدى زيارتنا لأحد الأسر التي تضمّ هؤلاء المختلفين ذهنيا ضمن برنامج من برامج سوراك بالولايات المتحدة الأمريكية؛ واستفدت من خلال هذا البرنامج بمعية بعض الزملاء الأساتذة من رحلة مثيرة ومشوقة للديار الأمريكية صيف 2016 تهمّ بالأساس دراسة الواقع الديني في المجتمع الأمريكي
مشاهد الزيارة وملامحها الإنسانية
واعتاد الأستاذ بول هيك مدير سوراك – يسعى الى التقارب الديني والإنساني – أن يمارس علينا في كثير من لحظات الرحلة سياسة التشويق والمفاجآت! وبالفعل في أيامنا الأخيرة في الرحلة حدثنا عن مفاجأة سماها: عشاء الغربان! … ظننت لوهلة ونحن في الطريق اليها أننا بصدد عشاء عند إحدى الأسر الأمريكية التي لها علاقة بالبرنامج لكي تكون خاتمة مسك لهذه الرحلة التي دامت شهرا في الولايات المتحدة، وبالفعل كانت نعم الخاتمة، وأكثر من رائحة المسك حيث ضمّت أخيرا رائحة متميزة لرائحة الإنسانية
في الطريق تحدثنا عن معنى الغربة والغرباء ودلالتها اليوم في عصر المادة، وهل المثقف اليوم او المتدين يحمل هذا الإحساس بالغربة بين الناس … لكن لم أفهم جيدا دلالات هذا الحوار إلا بعد زيارة إحدى هذه العائلات التي تحتضن هؤلاء المختلفين ذهنيا… هل يحس هؤلاء بالغربة فعلا بيننا أم العكس؟ وكيف يكون الإنسان غريبا مع اخيه الإنسان الذي يشاركه الحياة على هذه الأرض؟
في الحقيقة كانت الزيارة بالنسبة لي منذ لحظة ولوجنا الباب دفقة شعورية لم أستطع ترجمتها إلا بالصمت لمدة طويلة والتأمل والإنصات إلى أفراد هذه الأسرة الكريمة إلا من بعض الكلمات والأسئلة القليلة التي نحاول من خلالها فهم هذه الأسرة وكيفية تعاونها ونمطها في الحياة … لعل البساطة والتلقائية أبرز معالم عيشها
بساطة وتلقائية فقدنا الكثير منها اليوم في عصر البروتوكولات الاجتماعية والتصنع والمداهنة والبراكماتية … إن هذه الزيارة أزاحت الكثير من غبار هذا النفاق الاجتماعي لتشعل فتيل الأمل في الحياة الإنسانية الصادقة التي تحتفل بالحياة وبالفرح والسرور بدل الكره والغضب والحروب
كانت حواراتنا مع بعض هؤلاء تتسم بكثير من العفوية والإيجاز المعبر يحكي لنا كل واحد منهم عن حياته وبما له بقدر ما تسعفه طاقة الكلام قد لا تتجاوز الكلمة والكلمتين أو الجملة والجملتين … لكنها معبرة جدا تترك الدهشة على محياك، وتحرك فيك التواضع والحمد والشكر على نعم الله، كما تحرك فيك مشاعر الحزن عن عدد من الطاقات والمشاعر التي افتقدناها وأهملناها ونحن نلهث وراء هذه الدنيا الزائلة
ولعل المفاجأة الكبرى هي رائحة العشاء الذي كان يعدّ لهذه المناسبة حيث تكلف عضوان من أعضاء هذه الأسرة لإعداده. كيف يمكن لمن يسمّونه في عالم اليوم بالمعاق ذهنيا ان يعدّ عشاء! وأكثر من ذلك أن يكون ذلا العشاء رفيعا وأنيقا يتطلب مجهودا لا بأس به، فقد كانت وجبة آسيوية أعتقد فيتنامية وهي خليط من العصائبية والتوفو والسبانخ والفستق … وبالرغم اني لم أكن معتادا على هذا النوع من الطعام إلا انه يعكس مهارة عالية كما نشاهدها في قنوات الطبخ العالمية … فالأكل الآسيوي ليس بالسهل إعداده
ما أثارني فيه لحظتان مميزتان: الأولى قبل العشاء حيث تمت صلاة جماعية من خلال تشابك أيادي الحاضرين جميعا وتلاوة صلاة شكر على هذه النعمة، والثانية في الأخير حيث تم طقس أقلّ ما يمكن تسميته بالعجيب والمدهش نظرا لما يحمله من دلالات إيمانية عالية؛ حيث يمسك كل واحد من الحاضرين على هذه المائدة مجسم لقدح داخله شمعة مضاءة ويذكر ما يتمناه أو يشكر الله على نعمة من نعمه، وبالفعل تم ذلك والعجيب أن تستمع لآمال وشكر هؤلاء المختلفين ذهنيا حيث البساطة والتلقائية والعفوية والإيمان الكبير بالله سبحانه وتعالى وكذا الرضا التام بقضائه وقدره؛ فترى منهم من يشكر الله أنه أصبح مستيقظا أو أنه ركب سيارة أو أنه أكل اكلا جميلا وغير ذلك… يا ليتنا معشر من يعتبرنا الأسوياء ذهنيا أن نقوم بذلك كل يوم وفي كل وجبة
بعض الدروس المستفادة من هذه الزيارة
الدروس المستفادة من هذه الزيارة كثيرة جدا، ويمكن أن تشكل رسائل قيمة لشبابنا اليوم المتطلع إلى مستقبل إنساني زاهر في ظل واقع الحروب والصراعات الدينية والثقافية؛ لعل أهمها أو ما يحضرني منها الآن ما يلي
أولا، التعارف الإنساني من أَجَلِّ المقاصد التي يمكن لإنسان اليوم أن يسعى لتحقيقها، حيث تكتسب حياة جديدة في كل لقاء مع الآخر المختلف معك، والذي يشكل اختلافه هذا مصدر غني ثقافي لك يختصر عليك سنين متعددة من البحث والتحصيل
ثانيا، الحب الصادق الذي لمسناه لدى المختلفين ذهنيا يعكس قيمة إنسانية غابت على الكثير منا في ظل النفاق الاجتماعي والإنساني اليوم الذي يركز على المصالح الشخصية بدل ما يمكن ان يقدمه للآخر. إن العطاء لا ينقص منك شيء إلا بقدر ما يداوي نفسك من مرض الشحّ والحقد والحسد والأنانية … إن العطاء منحة ربانية تنير بصفائها وصدقها دياجير ظلك وظلهم… لا تفي أشعار المحبّين مهما بلغت بلاغتها عن التعبير عن صدق المشاعر إذ قد تكون زائفة أو صناعة ثقافية … لكن ابتسامة واحدة من هؤلاء تلخص كل الحب وكل الصدق الكامن وراءها … إنهم بمثابة براءة الأطفال في ضحكاتهم العفوية والتي لا تعرف ضغينة أو غضب أو جفاف للمشاعر كما هو حاصل اليوم
ثالثا، يشكل المختلف ذهنيا آية من آيات الله التي تتجسد فيها عظمته سبحانه وتعالى حيث معاني الجمال والجلال … إنها الفطرة تمشي على رجليها لم يعبث بها الزمان ولا الثقافة ولا المجتمع … بقيت على صفائها تعبر بعفوية وصدق وتعكس بالتالي الأصل الذي بني عليه الإنسان: الفطرة
رابعا، إن الإيمان بالله هو أصل كل خير … ينبوع تفيض منه كل معاني الرحمة والخير والإحسان في أبلغ صورها. إن اللحظات التي تجلس فيها مع هؤلاء هي جلسات ذكر تغنيك عن مآت جلسات الاطباء النفسيين؛ لأنها مرآة تضعك أمام صورتك الداخلية على الحقيقة وهل تمتلك فيها ذرة إيمان صادق، وتضعك أمام هواجسك وخوفك من المستقبل، وتضعك أمام هروبك الدائم من واقعك، وتضعك أمام محاولاتك المستمرة للتخلص من أعباء الماضي … إنها لحظات تطهر بامتياز تفتح باب التوبة والأوبة أمامك بامتياز، وتدعوك للبدء من جديد … لتجاوز الحواجز واقتحام العقبات ومواجهة الصعوبات بنفس مطمئنة راضية
أخيرا وليس آخرا يمكن أن نتفهم هذه الرسالة وهي نعم يمكننا فعل ذلك! ….. يمكننا أن نتعايش ونعيش معا، ويمكننا أن نستوعب الاختلاف فيما بيننا نحن البشر على هذه الأرض الصغيرة التي لا تشكل شيئا في ملك الله وعظمة خلقه لهذا الكون الشاسع