بقلم (Paul L. Heck)
الموضوع الذي نحن بصدده هو حوار الأديان: الإسلام والمسيحية. فلنبدأ بسؤال: نلتقي بالآخر بصدر رحْب … كيف نلتقي بدين الآخر؟ في السنين الآخيرة تقدّم حوار الأديان على مستوى المؤسسات. يؤيّد الحوار الملوك والأمراء والرؤساء عبر العالم. كذلك تؤيده جميع المؤسسات الدولية. كذلك تبنّى مجلس النواب في الولايات المتحدة قرارا تأييدا لحوار الأديان. والآن هناك مؤتمرات لا تحصى يجتمع فيها رجال الدين ونساء الدين مسلمون ومسيحيون… ملتزمون بحوار الأديان. كل ذلك خير ولكن هذا اللقاء بالآخر وهو في تزايد … الظاهر هو أن المقصود منه تقوية الروابط الإنسانية بين الأديان من دون دراسة الروابط الدينية بينها. اللقاء هو لقاء بالآخر بكونه نظيرا في الإنسانية. لا بأس بذلك. نلتقي بالآخر بصدر رحب. اللقاء هو لقاء بالآخر وليس لقاء بدين الآخر. نرحب بالآخر بكلمة طيبة ولكن دينه يبقى مردوداً. قد يكون هذا اللقاء بين الأديان حميمياً ولكن الحوار اليوم … ينقصه التعارف. هل يعرف المسيحي الإسلام بالفعل؟ هل يعرف المسلم المسيحية بالفعل؟ هل يستعدّ كل طرف أن يجلس مع الآخر ويسأله: ماذا تؤمن به؟ وثم يصغي للجواب بصدر رحب؟ هل هناك تعارف بالفعل؟ نلتقي بالآخر بصدر رحب وكلمة طيبة ولكن دينه يبقى غير معروف.
وسؤال آخر: لماذا ندرس دين الآخر… دين غير ديننا؟ هناك من يدرس دين غير دينِه للرد عليه… ليجعلَه مردوداَ. ومن يقوم بذلك فإنه حرّ. ولكن مثل ذلك الباحث لا يكسب شيئاً من العلم بدين اللآخر وذلك لأنه يبدأ دراسته من حكم سابق على دين الآخر ليبحث في دين الآخر عما يبرّر حكمه السابق.
والسؤال لا يزال قائماً: لماذا ندرس دين الآخر؟ في هذا العصر لا بد من دراسة دين الآخر. لو لا ذلك لبقى الحوار حواراً بعيداً عن العلم بالآخر. ما هو المقصود من دراسة دين الآخر؟ هل ينفعنا ذلك؟ اذا لم ينفعنا فمن الأحسن تركه. علم الأديان هل هو علم نافع؟ لا بد من التفكر في الأمر. ولا بد من القول إن اللقاء بين الأديان ليس بأمر جديد. يشهد التأريخ على نَمَطين من اللقاء بين الأديان … الأول هو تبادل الردود والآخر هو التعارف. يعتقد الكثير أن تأريخ الأديان ليس إلا تأريخ حروب وردود. ذلك غير صحيح. بالعكس. من يدرس تأريخ الأديان بدقة يرى أن الغالب فيما بين الأديان عبر الزمان هو التعارف. على سبيل المثال نرى في الماضي كما نرى في الحاضر مسلمين ومسيحيين جيران بل أقارب في مدن الغرب ومدن الشرق. نرى رهبان وأساقفة في جلسات علمية مع خلفاء وعلماء. نرى الكثير من طلاب مسلمين دارسين مع أساتذة مسيحيين وكما نرى العكس … في الماضي وفي الحاضر. نعم يثبت التأريخ أن الرغبة في التعارف أغلب على الرغبة في الردود. لنا خيارات. يشهد التأريخ على ذلك. فاي خيار نريده؟ الردود بلا علم أو التعارف على العلم؟ أي خيار نريده؟ بل ماذا يريد الله؟ حسب ما بلغني من العلم فالتعارف هو من مقاصد الله. أما الردود فلا.
أما السؤال الكبير فيخص الروابط بين الأديان … الروابط التأريخية والروابط الفكرية. الأديان متنوعة. في نفس الوقت لا ينكر الترابط بين الأديان. لا نتكلم عن وحدة الأديان. تبقى الأديان متنوعة. ومن ينطلق الى دراسة الأديان لا يتنازل عن شيء من إيمانه. قد نخاف من دراسة دين غير ديننا. هل يوْقِعنا ذلك في النسبية الدينية، الأمر الذي يجعل الأديان كلها على نمط واحد؟ بالعكس. يزيدنا التعارف علماً بل يزيدنا إيماناً وذلك لأنه يوسّع نطاق رؤيتنا لفعالية هدى الله لخلقه فإن الله تعالى يهدي خلقه كما يشاء وذلك بأفعاله … نعم إن الله تعالى بأفعاله يدفع كل إنسان الى البحث عن حقائق الكون ومعاني الحياة البشرية. وهذا البحث عن الحقائق والمعاني فإنه لا يدع الإنسان إلا مطمئن القلب، وذلك هو مما يدل على رضاء الله به. لذلك نقول … من يدرس دين الآخر من حيث التعارف من دون الردود فإنه يدرك عَظَمَة الله الذي يهدي خلقه كما يشاء. نعم التعارف هو علم نافع. طيب … كيف نتطرق الى هذا العلم …حتى نتجاوز الإنسانية المشتركة ونصل الى شيء من العلم بالروابط الدينية بين الأديان؟ يقتضي الأمر الكثير من البحوث الدقيقة. لا يحصل التعارف بين عشية وضحاها. دعوني أذكر شيئاً من تجاربي العلمية. من حوالي عشرين سنة قضيت عاما كاملا في مصر. وكل أسبوع جلست جلسة علمية مع أحد طلاب الأزهر. وأصبحنا أصدقاء بكل معنى الكلمة. وكان المقصود من الجلسات هو أن نشارك بعضنا البعض في حياتنا مع الله. وبين الأفكار التى ناقشناها … معنى السكينة في الإسلام وما له من رابطة فكرية بالأديان الأخرى. المعنى … معنى السكينة … جميل للغاية: نزول السكينة على قلب المؤمن. موهبة من عند الله تزيد المؤمن خُلقاً وحكمة وبصيرة ويقيناً. لن أدخل في التفاصيل هنا. المهم: استطعنا أنا وصاحبي من الأزهر ان نثبت بدقة … رابطة فكرية وثيقة بين معنى السكينة في الإسلام ومعنى الروح القدس في المسيحية. طبعأ لا نتكلم عن شيء واحد. ليس … هذا … ذاك. ولا يُنكر الاختلاف بين مفهوم الروح القدس في الإسلام ومفهومه في المسيحية. مع ذلك استطعنا أن نثبت شيئا مشتركاً بين معنى نزول السكينة للمسلم ومعنى نزول الروح القدس للمسيحي فيطمئن القلب بنزول هذا كما يطمئن بنزول ذاك. طيب … وصلنا الى شيء من العلم. ماذا نفعَنا ذلك … التعارف بين مسلم ومسيحي؟ نفع كبير! رأى هو في دين الآخر ما يدفع قلب الآخر الى التوجه على وجه الله. وكذلك أنا بدوري رأيت في دين الآخر ما يدفع قلبه الى التوجه على وجه الله. بل أكثر من ذلك. توسّع نطاق رؤيتنا لفعالية هدى الله لخلقه. بطبيعة الحال يبقى دينه دينه وديني ديني. مع ذلك أدركنا رابطة من الروابط الدينية بين الدينين … ما زادنا علماً بافعال الله بخلقه وهو سبحانه يهدي خلقه كما يشاء وما هو أنفع من مثل ذلك العلم؟ هكذا التعارف دون التناكر يفتح الباب الى اللقاء بدين الآخر. وذلك هو المقصود من علم الأديان.