بقلم (Paul L. Heck)
يتداول اليوم الكثير من الأسئلة حول الدين والإيمان والأراء والعقائد. أين الصواب؟ هل كل الأراء متساوية؟ هل هناك فرق بين الإيمان هذا والإيمان ذاك … أو يصبّ الإيمان بكافة أشكاله في بحر واحد؟ هل يستطيع الإنسان أن يكون أخلاقياً دون الإيمان بينما المؤمن قد يختئ وقد يصيب في الأخلاق؟ ما هو الفرق بين الإيمان والعلم؟ وكيف يعرف المؤمن أن ما يؤمن به هو علم يدركه كل من له عقل؟ ولكن إيمان الفرد ينتج كثيراً ما عن تربية البيت أو دين الدولة دون برهان العقل. أليس الإيمان مجرد اختيار شخصي؟ فلا جدوى من الإيمان بالإكراه، ما يجعل الإيمان قرين حرية الشخص. مع ذلك لا نختار مبادئ الحياة اعتباطاً. نتفكر في تجاربنا. هل هناك في الفطرة ما يدفع جميع الناس الى اختيار الكثير من المبادئ المشتركة؟ هل فطرنا الله على اختيار ما يجمعنا من حقائق؟ في نفس الوقت لا نتفق على كل شيء، وقد نستخلص من ذلك أن الحق هو غير مطلق. يؤمن هذا الشخص بشيء ويؤمن ذلك بشيء آخر، ولا يقول لا هذا ولا ذاك أنه يؤمن بالباطل، إلا أن الحق أمر مختلف عليه. هل هناك من يقول إن شؤون وطنه ليس إلا أباطيل؟
من له عقل فإنه يدرك ما يجري اليوم من بلبلة في أفكار وأراء ولكن هذا الأمر قديم. هل نستطيع أن نشارك غيرنا فيما نؤمن به؟ هل نستطيع أن نفهم ما يشاركنا غيرنا فيه من إيمانه؟ هل نستطيع أن نتفاهم رغم الاختلاف في الإيمان وذلك في الوطن نفسه؟ يُفترض في هذا الشأن أن الإيمان هو شيء يُدرك بالعقل، وإلا فلا يستطيع غيرنا فهمه. الإيمان هل هو ما يشعر صاحبه في أعماق قلبه دون غيره؟ الإنسان له عقل وله بيان. لذلك يبلّغ إيمانه الى غيره كما يفهم ما يبلّغه اليه غيره من إيمانه. هكذا فإن الإيمان لا يوجد في الظلام حيث لا يفهمه إلا صاحبه، وإلا فيصبح الإيمان ما يفصل بيننا بل ما يزيدنا جهلاً إذا كان أمراً لا يفهمه إلا صاحبه. مع ذلك كله لا يُنكر التناقض في رأي هذا الإنسان وذاك. وكما ذُكر آنفاً فالأمر قديم، وقد نستخلص من ذلك أن الاختلاف هو سنة كونية، إلا أن هذا الاختلاف لا يمنع الإنسان من الخوض في الحوار مع غيره بخصوص إيمانه وأرائه في معنى الحياة والمقصود من إنسانيتنا.
في هذا الكتاب نطّلع على معنى الإنسان ودينه. مما لا شك في هو ان الإنسان له دين، وعند الاطلاع على ما للإنسان من دين فلا يجوز تجريده مما له من إنسانية. نعم، عند الاطلاع على دين الإنسان فلا يجوز تجريد دينه عن إنسانيته. هل تختلف إنسانيتك عن إنسانيتي؟ كلّا فهي ما يجمعنا. لو لا ما بيننا من الإنسانية لما عرفنا بعضنا البعض. ما معنى الإنسانية؟ ماذا يمتاز الإنسان به عن غيره من الخلق؟ برزت الكلمة في عصر النهضة في إيطاليا في القرنين الرابع عشر والخامس عشر للميلاد بمعنى العلوم الإنسانية، اي اللغة والبلاغة والأدب وكل ما احتاج اليه أبناء الأعيان من فنون ليقدروا على تدبير الشأن العام. كان المقصود من هذه العلوم أن يكون الإنسان بليغاً وحكيماً يجيد العمل في صفوف البلاط. ونجد مثل ذلك في تأريخ الإسلام في عصر الخلافة العباسية عند فئة الكتّاب الذين فاقوا العوام في فنون اللغة وفنون التدبير. أما النهضة في إيطاليا فردّ أصحابها على الفلسفة التي سادت في أوساط كنسية باعتبارها الوسيلة الى علم اليقين. ما الفائدة من النظر فيما وراء الطبيعة؟ من دعا الى العلوم الإنسانية في ذلك العصر فإنه لم يعدل عن الإيمان، ومن رموز الهنضة البارزة رجال الدين. لم يدعو أصحاب النهضة الى ترك الدين ولا الى الفصل بين الدين والدنيا. نجد بينهم من انتقد الكنيسة ورجالها ولكن المقصود من الدعوة الى العلوم الإنسانية مقصود علمي وليس الحط من الإيمان. قصد أصحاب النهضة الى التقليل من شأن الفلسفة والنظر في ما وراء الطبيعة. ما فائدة من ذلك من أجل تدبير شؤون الإنسان؟ ومن ثم قصدوا الى االرفع من شأن النفس الإنسانية وفضائله والعلوم بذلك الشأن، وذلك كله هو ما احتيج اليه من أجل تربية أبناء الأعيان، وذلك لتمهيد الطريق أمامهم للاشتراك في الحياة العامة وليس للانضمام الى حياة الرهبان. عززوا العمل في الدنيا على الزهد فيها واعتبروا فنون اللغة بالإضافة الى فضائل الدين سرّ الاشتراك الفعال في شؤون المدينة. وجمعوا بين الإحسان في الكلام والإحسان في الأخلاق فمن لا يزلّ في الكلام لا يزلّ في الآداب. هكذا برزت العلوم الإنسانية عند الأعيان في مدن إيطاليا في عصر النهضة.
ما ما يهمّنا من هذا كله هو التشديد على البيان. من لا يستطيع أن يبينّ إيمانه فلا يفهمه غيره بل يبقى إيمانه في الظلام. هل الإيمان شيء يبقى في الظلام؟ من يستطيع أن يبين إيمانه فيخرج من الظلام ليجعل من إيمانه ما يدركه غيره بالعقل، وذلك هو ما لا يُستغنى عنه ليقدر الإنسان على معرفة ما يعتقده غيره من إيمان. الإيمان هل يُفهم أم يُبهم؟ ذلك ولا يصح القول إن عصر النهضة هو مبعث الحداثة. سلط أصحاب النهضة الضوء على الإنسان ولكنهم لم ينظروا اليه بمعزل عن النظر الى الله. ولا بد من الذكر أن الإلحاد ليس بقرين العلوم الإنسانية فمن يجحد وجود الله قد يفعل ذلك لمشاعر إنسانية أو لمشاعر غير إنسانية. اليوم هناك من لا يرى في علوم الدين والعلوم الإنسانية إلا التناقض والتعارض ولكن ذلك الرأي هو رأي متأخر في تراث العلوم الإنسانية لم يظهر الا في أواخر القرن التاسع عشر حين قال البعض إن الإيمان بالله يحول دون تطور الإنسان، وذهبوا الى القول إن الإيمان سبب التخلف فلا يتقدم الإنسان إلا إذا تحرر من قيوده. الآن ننظر الى مثل هذا القول باعتباره قول يخص عصره ولا يعمّ الزمن كله. لذلك لا يزال السؤال قائماً: ما هي العلوم الإنسانية؟ هل يصحّ الجمع بينها وعلوم الدين بكون الإيمان مما هو داخل الإنسان وليس شيء يخالف ما فُطر عليه؟ النقاش حول المقصود من العلوم الإنسانية فلا ينتهي. مهما يكن من الأمر فلا يُنكر ما في بني بشر من روح يدفعه الى التفكر والاكتشاف بلا حدود. الإنسان يفعل الشر كما يفعل الخير. مع ذلك لا تنتهي حدود ما له من القدرة على التفكر والاكتشاف. لا يبتعد عن الحق من يقول إن الإنسان له همة بلا حدود. وعبر القرون قد قام الإنسان، رجال ونساء في جميع الحضارات والديانات، بالكتابة ليعبروا عما لهم من أفكار ومشاعر ترجع الى ما فهموه من معنى الحياة. وتشهد هذه الآثار الأدبية لمدى ما في الإنسان من التفكر والاكتشاف، ما يدلّ على ما في الإنسان من صوت يخاطبه في أعماق كينونته يستلهمه ليتغلب على الشر وليثبت محبته لغيره ورجاءه بمثل ذلك كما يمكّنه هذا الصوت في داخله من التمسك بالحياة حتى في أحوال مهولة قد توقعه في اليأس والتخلي عن ما له من معنى في الحياة. ذلك كله هو مما ترك أثراً في الإنسان كما هو ما دفعه الى التفكر في أمره والى التعبير عنه في ما تركه هو من آثار أدبية تترك أثراً بدوره علينا اليوم عند قراءتها. وفي ذلك قد يلوح ما للعلوم الإنسانية من أمر الدين وما للدين من أمر الإنسان.
وما هو الدين؟ قد يتبادر الى الذهن أن الدين هو ما يفصل بيننا. نحن على دين وأنتم على دين أما هم فلا دين لهم. وما هو دور الدين في المجتمع؟ في الحقيقة لا يقسّم الإنسان حياته بين لحظات ينقاد الى أرائه وقيمه ولحظات لا ينقاد اليها فلا يعيش في حال الانفصام. في الحقيقة لا يتجزأ الإيمان من حياة الإنسان في لحظة من اللحظات. هكذا فإن الدين ليس شيء يخرج بنا عن حالتنا الإنسانية. لذلك لا بد من القول إن دين الإنسان كائناً من كان لا حدود له بل هو ما يدفعنا الى قراءة تجاربنا واستنباط ما لها من معانٍ يخص الحياة.
وما هي دراسة الدين؟ ألا ندرس الدين حتى نعلم من هو الله؟ هل يُعقل أن ندرس الدين حتى نعلم من هو الإنسان؟ لا شك أن ندرس الدين حتى نعلم الله. مع ذلك يشير الكتاب نفسه الى أن كلمة الله لا تُقرأ وتُدرس فقط بل تؤكل أيضاً. على سبيل المثال، ويُقرأ في سفر حزقيال أن الرب أطعمه سفره فوجده حلواً حلاوة العسل، كما يُقرأ في رؤيا يوحنا أن ملاك الرب ظهر له وأطعمه كتاباً فوجده حلواً على لسانه إلا أنه ملأ بطنه مرارة. ومثل يوحنا نجد شيئاً من الفرح وشيئاً من الحزن في ما نتلقى من عند الرب. وكذلك تشير أحاديث شريفة الى الكتاب بكونه مأدبة الله في الأرض. ما هو المقصود من مثل هذه الأقوال بإن كلمة الله تؤكل كما تُقرأ وتُدرس؟ في نهاية المطاف لا تُخرجنا كلمة الله عن حالتنا الإنسانية بل لا تُدرك دون حالتنا الإنسانية. نقرأ الكلمة ونتفكر فيها ولكن الإشارة الى أنها تؤكل فهي إشارة الى الرابطة الوثيقة ما بين حياة الإنسان الداخلية والوحي كما يدركه من عند ربه، فإن الإنسان في أعماق كينونته يشتاق الى ما لا حدود له والى ما يترقى به حيث يتعالى عن الوقوع في اليأس واللامبالية والانقطاع عما للحياة من معنى.
عندما ندرس الدين من زاويته الإنسانية فلا نجرد الله من دوره في الدين. هناك من يقول إن الله خلق الخلق وتركه ليجري مجراه في معزل عن عنايته. أما نحن فنقول إن الله أقرب الينا مما نتصور. لذلك قد يلوح شيء من أمره عند أحوال الإنسان، وذلك في إنسانيته وما له من أفكار ومشاعر إنسانية. وتشهد على ذلك آثار أدبية المقصود منها اكتشاف أفاق الإنسان. لا يُنكر فيما نحن بصدده أن الله هو المقصود ولكن منطلق القصد هو الإنسان. فيما يلي من مقالات نطّلع على أنواع من الآثار الأدبية التي تركها أدباء من يهود ومسيحيين ومسلمين. لا يقتصر الأمر على هذه الديانات الثلاث. من هو متخصص في ديانات أخرى سيجد فيها ما نسعى هنا الى تسليط الضوء عليه بشأن الديانات الثلاث. فيما يلي ننطلق من آثار أدبية يهودية ومسيحية وإسلامية تلمح الى سبل الله في الإنسانية.
قد يتساؤل أحد هل نجعل من الإنسان المقياس؟ وإذا بات الإنسان المقياس التي يُقاس به كل شيء فألا نعظّم الإنسان بدلاً من ربه؟ ألا نعرّض أمرنا الى خطر هو نفي وجود حقائق وراء ما يدركه الإنسان؟ ألا نجعل الإنسان هو مصدر العلم بينما هو في الحقيقة يسعى عن مصدر العلم؟ لا ينكر أن أسباب العلم المعرفة تقع داخل الإنسان إلا أنها تؤدي به الى آفاق جديدة بلا نهاية. بعبارة أخرى يوجد فينا ما يدعونا الى حقائق خارجنا. هكذا فإن القيام بدراسة الدين من هذه الزاوية فإنه ليس المقصود منه الإيمان بالذات وإنما يقرّ بحقائق ومعطيات خارج الإنسان كما يقرّ بها داخل الإنسان، منها يفرح القلب ومنها ما يحزنه. هناك من لا يقبل الواقع ويعيش حياة وهمية بعيدة كل البعد عن الواقع وما فيه من أسباب للفرح وأسباب للحزن. ما همّنا هنا هو الإنسان الذي يستجيب الى أحوال الواقع ويبيّن هذا الأمر في كتب قصص وما الى ذلك من آثار أدبية فيها ما يدلّ على أمر الله الجاري في الإنسان الذي يستجيب الى صوته.
وقد يتساؤل أحد هل نُزيل ما يفرقنا في فرق دينية؟ إذا درسنا الدين من الزاوية الإنسانية فإننا نتجاوز العقائد التي تفرق هذا الدين عن ذاك. وذلك هو صحيح. لا نستطيع تقسيم الحياة الإنسانية الى ما هو ديني وما هو لاديني ولا الى هذا الدين وذاك. لا يصح القول إن البعض مؤمن والبعض الآخر غير مؤمن، والبعض ينال الخلاص والبعض الآخر لا، والبعض مختار والبعض الآخر لا. لا يُنكر التنوع في تراث الدين إلا أن تجارب الإنسان تكشف عن أمر الله بصورة أو بأخرى. ذلك ونقول إن حقائق الدين بما أننا نستطيع أن نستخلصها من تجارب الإنسان فإنها قابلة للإدراك عند الجميع. هكذا فإن الكلام في الدين يعود الى تجارب الإنسان بل الى تعامله معها، ما يجعل من الدين أمراً يدركه الجميع من حيث التبادل في الأراء والقيم عبر الثقافات والديانات. بطبعية الحال لا ينتهي البحث عن الحقائق فإن الإنسان خَلْقُه أطوار. وربما لا تقتصر الحقائق على كلمات تُكتب في صفحة أو صفحتين. قد يكون أقرب الى الصواب القول إن الحقائق ليست كلمات بل علاقات. مهما يكن من الأمر فلا يوجد الدين ليفرقنا في فرق وإنما يُفترض أن يجمعنا في حوار لا ينتهي. هل الحق ما ينزل من العليا؟ أو هل هو ما يرجع الى ما فطرنا الله عليه من فطرة وذلك لنفرح بما للحياة من معان؟
ومن الجدير بالذكر أن هذا الأمر قديم. ونجد من القدماء من سلك هذا السلوك ومن رأى في الآثار الأدبية ما يلمح الى أمر الله، ومنهم ابن حزم الذي عاش في القرن الخامس للهجرة. ودخل ابن حزم في الكثير من نقاشات العصر بلسان يقال إنه احدّ من السيف، وتسارع الى الرد على أصحاب دينه كما تسارع الى الرد على أصحاب الأديان الأخرى. هذا وترك العديد من الآثار الأدبية فيها ما يدلّ على أنه أدرك ما في الدين من إنسانية وذلك رغم شعوره بالعلو على غيره من علماء عصره. ويشهد على ذلك كتابه الأخلاق والسير في مداواة النفوس، وفيه يتناول ما يصيب نفس الإنسان من أمراض وعلل وما يشفيه منها. وفي تأليف الكتاب نهل من عدة مناهل، منها ما استخلص من تجاربه من حيث الحالة الإنسانية، ما دفعه الى تدوين أرائه في الأمر حتى ينفع ذلك غيره. ويقول:
فَإِنِّي جمعت فِي كتابي هَذَا مَعَاني كَثِيرَة أفادنيها واهب التَّمْيِيز تَعَالَى بمرور الْأَيَّام وتعاقب الْأَحْوَال بِمَا منحني عز وَجل من التهمم بتصاريف الزَّمَان والإشراف على أَحْوَاله حَتَّى أنفقت فِي ذَلِك أَكثر عمري وآثرت تَقْيِيد ذَلِك بالمطالعة لَهُ والفكرة فِيهِ على جَمِيع اللَّذَّات الَّتِي تميل إِلَيْهَا أَكثر النُّفُوس وعَلى الازدياد من فضول المَال وزممت كل مَا سبرت من ذَلِك بِهَذَا الْكتاب لينفع الله تَعَالَى بِهِ من يَشَاء من عباده مِمَّن يصل إِلَيْهِ بِمَا أَتعبت فِيهِ نَفسِي وأجهدتها فِيهِ وأطلت فِيهِ فكري فَيَأْخذهُ عفوا وأهديته إِلَيْهِ هَنِيئًا فَيكون ذَلِك أفضل لَهُ من كنوز المَال وَعقد الْأَمْلَاك إِذا تدبره ويسره الله تَعَالَى لاستعماله.
هكذا بهذا القول فإن ابن حزم يُطلّ على افتراق الطرق بين الآثار الأدبية والحالة الإنسانية وما في ذلك كله من الاتجاه الى الآفاق الإنسنانية وما فيها من مقاصد الله. والكثير من مثل ذلك هو في الانتظار. نتمنى لك رحلة ممتعة على طريق العلوم الإنسانية الدينية.