بقلم (Paul L. Heck)
طلبوا مني قولاً عن التطرف والدين. طلبوا ذلك مرتين. مرة في كلية علوم التربية بجامعة محمد الخامس ومرة في الرابطة المحمدية للعلماء. الموضوع هو موضوع الساعة.
وليس هذا المقال إلا جانب من الوضوع. ولن أبخل عليكم ببقية الأسرار في مقالات لاحقة.
التطرف هو أشكال منها التطرف للدين. ومن يريد الكلام عن التطرف للدين فعليه التفكر في معنى الدين. ما هو الدين؟ لا بأس أن نلخص الأمر في فكرتين متضادتين قد لا يميز بينهما الكثير ممن يتساءل عن الدين. الدين هو شفاء لا شك في ذلك. ولكن السؤال يطرح نفسه: أي نوع من الشفاء؟
الدين هل هو شفاء الغليل أو شفاء القلب؟
شفاء الغليل هو الأخذ بالانتقام وتصفية الحسابات لإثبات النفس، وذلك خوفاً على النفس أمام العالم. أما شفاء القلب فهو الرجوع الى الفطرة السليمة بلا خوف ولا حزن ولا شعور بالعار. يبدو أن الأمر واضح ولكنه غير واضح عند الكثير. هناك من يعتقد أن الدين هو فرصة لشفاء الغليل. عجيب! الدين فرصة لشفاء الغليل؟ هناك مِن الشباب من يختلط عقله في هذا الأمر فينضم الى هذه الجماعة المتطرفة أو تلك لشفاء غليله في القتل وهو يعتقد أنه يحقق مقاصد الدين. المتطرف للدين هو من يختلط عقله في معنى الدين فيسعى الى شفاء غليله على حساب وجود الأخر ويظن أن ذلك هو الدين!
قد يكون فقيراً. قد يكون غنياً. قد يكون قارئاً. قد يكون غير قارئ.
والغريب في الأمر بالغ الغرابة هو أن المتطرف للدين هو من يريد الانتقام على الله. نعم، يريد الانتقام على الله وذلك بسبب شعوره بالعار أمام العالم. يعتقد أنه يسعى الى كسب رضا الله ولكنه في الحقيقة يريد الانتقام على الله بسبب الشعور بالعار أمام خلق الله. عجيب … شباب يريد الانتقام على الله ويعتقد أن ذلك هو الدين! ما أسوأ من ذلك فهماً للدين!
كيف ينتقم المتطرف للدين على الله؟ ينتقم على الله بقتل خلق الله.
يقتل من يرى فيه سبب شعوره بالعار أمام العالم، وذلك لإزالة شعوره بالعار ستراً له. لمحو عن وجه الأرض من يمثّل في ذهنه السبب وراء شعوره بالعار. لشفاء غليله على من هو سبب عاره. هل ذلك هو الدين؟ حشا لله!
على سبيل المثال، منذ قليل قام شاب أبيض في الولايات المتحدة بقتل عدد من السود وذلك في بيت من بيوت الله! دخل تلك الكنيسة، جلس معهم قليلاً وهم يتدبرون الكتاب المقدس، وأطلق النارعليهم. في بيت من بيوت الله! هكذا قام ذلك الشاب لينتقم على الله بقتل خلق الله.
لماذا؟
قام بما قام به من القتل بسبب شعوره بالعار أمام التطورات في وطنه. في نظر ذلك الشاب لا يحكم وطنه إلا الأبيض ولكن الواقع قد تغير. ليس الوطن للأبيض دون غيره بل للجميع ولكنه لا يستسيغ الواقع. لذلك قام لشفاء غليله وقتل عدداً من سود تلك الكنيسة لمجرد أنهم سود، وذلك لأنه رأى فيهم سبب شعوره بالعار. عجيب. الشعور بأن الواقع يظلمه ويحرمه من مكانه العالي على غيره من أعراق الوطن. لذلك قام ليزيل مِن أمامه مَن رأى فيه سبب هذا الشعور وقتلهم شفاء لغليله.
قتل ذلك الشاب مِن خلق الله انتقاماً على الله. لا يعود الوطن وطن الأبيض وحده فشعر ذلك الشاب بالعار. مثله مثل من أخفق أمره أمام العالم. العار! العار؟ ما هو العار في وطن هو للجميع؟ أما ذلك الشاب فرأى عاراً في واقع الوطن وقام للانتقام على الوطن بل على الله، لأنه في الحقيقة لا يميز بين الوطنية والألوهية. (وتوجد مثل تلك الفكرة في كل بلد.) ولكن الوطن فأصبح عاراً عليه بكونه أبيضاً يحق له أن يتعالى على غيره في الوطن إلا أن الوضع لا يعود على تلك الحالة. قد تغير الوطن. أصبح رئيسه من السود. لهذا قام ذلك الشاب وقتل من في رأيه يمثل عار الوطن أنتقاماً عليه بل على الله.
وما نجده في الوطن الأمريكي اليوم نجد مثله في الوطن العربي.
من بين الشباب في الوطن العربي اليوم يوجد من قد يكون غنياً فقيراً قارئاً غير قارئ فإنه ينظر الى العالم ويتفكر: لماذا هم أحسن منا ونحن على دين الله وهم كفار؟ لماذا هم اقوى منا وأنجح منا؟ لماذا هم متحدون ونحن منقسمون على أنفسنا؟ لماذا يتقدم مذهبهم ويتأخر مذهبنا؟ لماذا تتقدم طائفتهم وليس طائفتنا؟ نعم، هناك من الشباب اليوم من يخطر بباله مثل تلك الأفكار.
وهذه الأفكار كلها أوهام. والغريب هو أنها أفكار الجميع. يطرح هذه الأسئلة شباب وطن من الأوطان أو مذهب من المذاهب ويطرح الأسئلة نفسها نظيره من الأوطان والمذاهب الأخرى. عجيب!
يشعر الجميع بالعار ولا يستشعر أن الآخر الذي يرى هو فيه سبب عاره هو الآخر يشعر بالعار ولنفس الأوهام. الإنسان منجرح القلب وجروحه تُعميه، فمن منا لا يحتاج الى الشفاء؟
نعود ونقول، من الشباب من يتساءل: هم المتفوقون ونحن المتدنون ونحن على دين الله؟ نعم، من الشباب من يقع في فخ الشعور بالتفوقية الدينية ليدور في متاهة العار أمام العالم بسبب ذلك الشعور. ومن ثم يتكون عند البعض الاستعداد للانتقام على عالَم يرى فيه سبب عاره فيأخذ بالانتقام على الله بقتل مِن خلق الله من يرى فيه السبب وراء شعوره بالعار. هكذا يكمن وهْم العار في وجود التطرف.
يريد بعض الشباب أن يشفي غيظه، فلا يستطيع أن يفرّغ ما في نفسه من غضب يشتد في قلبه بسبب الشعور بالعار أمام العالم. لذلك يريد أن يزيل سبب عاره ويمحوه عن وجه الأرض. يريد تصفية هذا الحساب أو ذاك. يريد أن يزيل غيره من بين أيديه لأنه يعتقد أن ذلك الغير أحسن منه وأقوى منه وأنجح منه، ما يُشعره بالإهانة والعار أمام العالم. ويتهم ذلك الغير: أنت سبب شعوري بالعار.
ولا بد من ستر العار فيقتل من يعتبره سبب شعوره بالعار. هكذا يستر عاره.
ويعتقد أنه يحقق أمر الله فيطهّر وجه الأرض ممن يرى فيهم أعداء الله بينما هم في الحقيقة ليسوا أعداء الله. هم في اعتقاده سبب شعوره بالعار فيصنّفهم أعداء الله. وذلك كله أوهام.
فيعتقد أنه بطل الله وهو في الحقيقة من الجاهلين. يعتقد أنه في الفرقة الناجية دفاعاً عن أمر الله أمام الفرق الضالة وأهل الشرك بينما هو في الحقيقة ينقاد لشعوره بالعار ويسعى الى الانتقام على الله بسبب ما يعتريه من عقدة دينية. هكذا يختلط عقله في الأمر بين شفاء الغليل وشفاء القلب ليسيء الفهم للدين. بل أكثر من ذلك يدخل في قصة قابيل.
قصة قابيل؟ القصة معروفة. قتل قابيل أخاه. لماذا قتل أخاه؟ قتل أخاه لأنه شعر بالعار أمام الله، ما دفعه للانتقام على الله. كيف انتقم على الله؟ بقتل أخيه الذي رأى فيه سبب شعوره بالعار.
قصة قابيل وقصة المتطرف قصة واحدة. يريد المتطرف، كما أراد قابيل، أن يزيل عن وجه الأرض من يعتبرهم سبب شعوره بالعار. يريد المتطرف، كما أراد قابيل، شفاء غليله انتقاماً على الله على حساب خلق الله. يسعى المتطرف الى شفاء غيظه كما سعى الى ذلك قابيل. ويقول إن ذلك هو الدين.
فما أسوأ من هذا فهماً للدين؟
وعلى خلاف قصة قابيل، أي قصة المتطرف، هناك قصة أخرى، قصة إبراهيم عليه السلام.
على خلاف قابيل، انتبه إبراهيم الى أمر جد هامّ هو أن الدين لا يوجد لشفاء الغليل بل لشفاء القلب. لذلك لم يلتجئ إبراهيم الى الانتقام حتى على من اضطهده وإنما التجأ الى مراحم الله. مراحم الله! لا يشفي قلب الإنسان المجروح إلا مراحم الله. كان إبراهيم فعلاً بطل الله لأنه أدرك معنى الدين وهو شفاء القلب وليس شفاء الغليل. عاش غريباً بين الأمم في عصره. مع ذلك لم ينتقم على الأخر. لم يتوهم أن الآخر هو سبب عاره. وإنما سارع الى استقبال الآخر. استضاف من ضيوف من لم يعرف أصلهم ولا وطنهم ولا مذهبهم. كذلك تنقّل بين ملوك الدنيا في ذلك العصر وتعرّض الى الاستبداد على إيديهم ولكنه في حين الشدة والضيق لم يراهن أمره على نفسه بل على ربه. ومن اضطهد إبراهيم من الأقوام والحكام فإن إبراهيم عليه السلام لم ينتقم عليه ولا دعا عليه بل دعا له. هكذا انتبه الى حقيقة الدين وراهن أمره على مراحم الله شفاء للقلب، ما أقدره على أن يرحم غيره.
نعم، هناك من الشباب في جميع الأوطان مَن يسيء الفهم للدين ويدخل في قصة قابيل شفاء للغليل. ويتجاهل قصة إبراهيم وما فيها من مراحم الله. مما لا شك فيه هو أن الشباب في هذا العصر كما في غيره من العصور يريد أن يثبت قيمته أمام العالم. هذه هي قصة الشباب. السعي الى إثبات القيمة أمام العالم. ولكن البعض يسيء الفهم للدين وينحرف عن السبيل ليتورط في قصة قبيل انتقاماً على الله بقتل خلقه، ويعتقد أن ذلك يثبت نفسه أمام العالم باسم الدين! قصة قابيل باسم الدين!ّ
لا بد من طرح السؤال: ما يثبت قيمتك أمام الله؟ جهودك؟ شعورك بالعار؟
أو رحمة الله عليك؟ فلا يُنسى أن رحمة الله تسع كل شيء حتى شعورك بالعار! فليس عليك إلا فتح قلبك الى مراحم من عند الله فتصل الى شعورك بالعار فيزول ذلك الشعور أمام مراحم الله شفاء لقلبك.
فلا شفاء للقلب إلا رحمة الله. قصة إبراهيم فيها مغامرة … مغامرة القلب. أما شفاء الغليل فليس في ذلك إلا إحياء لقصة قابيل. فلنربي شبابنا على قصة إبراهيم حتى يتخلص من قصة قابيل. والى الأمام. في أمان الله