رجع كلا الصبيَين يوحنا وياسين إلى بيته بعد يوم قضياه معاً. لقد اعتادا أيام السبت الذهاب إلى الغابة بالقرب من حيهما بغية التجول والاستكشاف، وذلك لساعات لم يشعرا بمرورها لا يوحنا ولا ياسين. أحياناً سلّما على الطيور وهما يركضان بين الشجر. أحب كلاهما الطيور حباً خاصاً. عَرَفاها كلها بأنواعها، كما سَمَّيا الطيور التي شاهداها مرات متعددة بأسماء خاصة. أحياناً جَلَسا في ظل شجرة أحبها كلاهما حباً متميزاً، تلك الشجرة التي طالت على بقية الأشجار إعلاناً برئاستها على الغابة كلها. ومن حين لآخر جلس الصبيان في ظل الشجرة أحدهما بجانب الآخر، والتزما الصمت للإصغاء إلى الطيور وتعيين أنواعها وأسمائها من خلال أصواتها
في وسط الغابة وقعت صخرة ضخمة منفصلة عن الأشجار. أحب الصبيان تلك الصخرة حبّهما لكل شيء في الغابة. وذلك اليوم، بينما كانا يتسلقان الصخرة، خرج من قميص يوحنا صليب تعلّق بالقلادة التي أحاطت عنقه، فظهر الصليب كاملاً على صدره. وقد سبق لياسين أن رأى صليباً. لأن الصلبان قد كثرت على الكنائس في المدينة، ومنها كنائس بالقرب من المساجد، ولكنه لم يتصور أن يكون صديقه لابساً الصليب. هل لبسه كعقوبة؟ هل لبسه بسبب حزن ألمّ به؟ هل لبسه بسبب جرح أصابه؟ هل الصليب نوع الترياق لمرض ابتُلي به؟
تلك الليلة استفسر ياسين والده عن الأمر، هذا الأخير ناقش ابنه مطولاً
ـ بابا هل نتخذ من يلبس الصليب صديقا؟
ـ بنيّ، استفت قلبك. ما هو شعورك وأنت مع يوحنا؟
ـ أشعر بالسعادة. أعرف أنه يريد لي الخير، كما أريده له. صحبته تُرغّبني في الخير، لأنه يفعل الخير، ومن ثم أرغب في فعل المعروف لجميع الناس
ـ صداقة جميلة. الله يحفظها
ـ هل يجوز أن أتشبه به؟
ـ هل يكذب يوحنا؟
ـ لا
ـ هل يسرق؟
ـ لا
ـ هل يقول كلاما بذيئاً إلى البنات؟
ـ لا. دائماً يقول إنهن أخواتنا في الله ومدعوات إلى إغناء المجتمع بمواهبهن مثلما نحن مدعوون إلى ذلك
ـ بنيّ، يمكن التشبه به لأنه ذو خُلق. والأخيار يُتَشَبّه بهم أينما وجدوا. أنبت الله يوحنا نباتاً حسناً كما أنبتك. وأعانكما على الخير. تتعزز أخلاقك بصحبته وأخلاقه بصحبتك. صحبتكما تشبه الأشجار التي تحبانها، فأنتما كذلك ستكبران معاً وستنموان نحو العلا معاً، بل بهذه الصحبة ستعرفان الفرح الذي يفرح به الله تعالى في كليكما
ـ فرح الله؟ هل يرضى الله عنهم كما يرضى عنا؟ سمعت أحد الشباب في الحي يقول إنهم لا يعرفون التوحيد
ـ انتبه أيها الولد، ما تنسبه إلى غيرك يُنسب إليك. هل ينفع الكلام عنهم دون علم؟ الجهل داء شديد يميت المحبة في القلوب. ألا ينبغي نشر المحبة بين الخلق؟ من تنقص محبته للخلق تنقص محبته للخالق. إذن، من لا يحب الخلق أجمع فإن عبادته غير خالصة، ولا تثبت المحبة إلا بالمعرفة كما لا تثبت المعرفة إلا بالصحبة الخالية من الأكاذيب التي ينشرها بعض الناس ليتكبروا على غيرهم
ـ ولكن القرآن يقول
ـ يقول القرآن الكريم إنهم ليسوا سواء. ونحن كذلك لسنا سواء
ـ إذن، يرضى الله عنهم؟
ـ هل يحتكر أحد رضا الله؟ هل تقتصر نِعَم الله على أمة دون أخرى؟ نتكلم عن رضا الله. يتكلمون عن رضا الله. لماذا لا نشارك بعضنا بعضاً الفكرة والتجربة ليركن شعورنا برضا الله إلى شعورهم به وكذلك العكس؟ ألم يخلق الله الخلق لنفع بعضهم البعض؟ هل يزداد رضا الله عنك بنفي رضاه تعالى عن غيرك؟ تصوّر معي، بنيّ، نِعَم الله تعالى هل يمكن إحصاؤها؟ يوماً ما ستجلس وصديقك وستتكلمان عن الأمر. وكما تتعجبان بما تكتشفانه بالغابة من نعم الله كذلك ستتعجبان عندما تكتشفان مقدار الخير الذي يكنه قلب كل منكما. وسيزداد شعورك برضا الله بالقدر الذي تدرك شعوره به وكذلك العكس. هكذا ستدركان أمراً عظيماً هو أن فرح الله بخلقه لا حدود له
اطمأن ياسين بالحديث مع والده بل زاده حباً ليوحنا. بقي الصليب غريباً بالنسبة له، إلا أنه شعر بأن الصليب هو الذي جعل يوحنا يحب ياسين. وذهب أبعد قائلاً لنفسه: نستطيع أن نفرح بوجوده ودينه وكذلك العكس
يقع بيت يوحنا مقابل بيت ياسين. أعتاد يوحنا الجلوس مع والده كل يوم قبل العشاء ليخبره بما وقع له في النهار. تلك الليلة سأل والده عن شيء سمعه من ياسين بالغابة. كان الصَبيان قد قررا الاستراحة على قمة الصخرة. تمدد كلاهما عليها واضعاً يديه تحت رأسه. بتلك الطريقة اطلعا على السحب البيضاء وهي تلاعب بعضها البعض في السماء الزرقاء. فجأة سمع يوحنا قولاً نطقه ياسين بصوت خفي: لا إله إلا الله محمد رسول الله
تلك الليلة سأل يوحنا والده عن الأمر فناقشاه نقاشاً طويلاً
ـ بابا هل نتخذهم أصدقاء؟
ـ بنيّ، استفت قلبك. ما هو شعورك وأنت مع ياسين؟
ـ أعرف أنه يريد الخير لي كما أريده له. بصحبته أشعر بالخير. يعني، أرغب في فعل الخير لأنه هو يفعل الخير. ومن ثم أرغب في فعل الخير لجميع الناس
ـ صداقة جميلة. الله يحفظها
ـ ولكن دينهم يختلف عن ديننا
ـ أخبرني عن صديقك. هل يتعامل معك بغلظة؟
ـ لا
ـ هل يتعامل بغلظة مع الصبيان والصبايا بالحي؟
ـ العكس. قلبه أكبر قلب، روحه أنعم روح، وكل ما لديه يشاركه مع كل أصدقائه
ـ بنيّ، لا تنكر تجاربك ومشاعرك ولا حقيقة هذه الصحبة. هو على خُلق أسلافه وهو خلق كريم
ـ ولكن أحد الشباب بالحي قال إن دينهم لا يدعو إلى السلام
ـ انتبه يا ولدي. ما تنسبه إلى غيرك يُنسب إليك، كذلك ما تطلبه يُطلب منك. إذا تكلمنا عن الآخرين دون علم ألا يحق لهم مثل ذلك؟ الجهل سم شديد يميت المحبة بالقلوب. هل نحب الخالق ولا نحب خلقه؟ هل نخلص العبادة لله وحده ويبقى شيء من الكراهية في قلوبنا؟
ـ هل يصلّون كما نصلي؟
ـ بنيّ، أخبرني ما المقصود بالصلاة وأردّ عليك
ـ دائماً قد قلت لي إن الله يجددنا بالصلاة. دائماً قد قلت لي إن الرحمة الإلهية تنزل علينا بالصلاة حفظاً لنا في وقت الهم والغم وكذلك في وقت النصب والغضب. هل يكون الإنسان إنساناً ولا يعرف رحمة الله ليألَف بها كما يُؤلَف بها؟ هل يجاهد الإنسان في سبيل المساكين طول عمره ولا يعرف أرحم الراحمين؟ دائماً قد قلت لي إن الله يقوّينا بروح المسيح عند الصلاة حتى نحيى بروح المسيح عند الحياة. دائماً قد قلت لي إن الصلاة تفتح العين حتى لا نرى في لذّات الحياة مجرد لذّات بل نِعَم الله نشكره تعالى عليها. هل يعرفون روح المسيح بالصلاة؟ هل يحيون على تلك الطريقة بالحياة؟
ـ بنيّ، ما هو المقصود بروح المسيح؟ عندما نتكلم عن روح المسيح نتكلم عن قوة ربانية هي هبة من هبات الله لا تُدرك بمنطق السوق فلا يحتكرها أحد ولا يتملكها أحد ولا يستهلكها أحد وحده دون غيره
ـ إذن، يعرفون روح المسيح بالصلاة وكذلك بالحياة؟
ـ بنيّ، ألم يخلق الله الخلق كله إلا برحمته؟ ألا يتحرك الخلق كله إلا بها، ألا يهتدي الخلق كله إلا بها، ألا يتجدد الخلق كله يوماً عن يوم إلا بها؟ هل يوجد قلب لا يقصد الله إلا أن يسكنه برحمته؟ هل يوجد قلب رقيق إلا رقّ برحمة الله؟ ذكرت أن صديقك رقيق غير غليظ. هل رق قلبه إلا بما نزل عليه من رحمة عند الصلاة؟
اطمأن يوحنا بالحديث مع والده بل زاده حباً لياسين. بقي دينه غريباً عليه إلا أنه شعر بأن ذلك الدين هو الذي جعل ياسين يحب يوحنا. وذهب أبعد قائلاً لنفسه: نستطيع أن نفرح بوجوده ودينه وكذلك العكس
مرت السنون ورسخت الصداقة بين يوحنا وياسين. أحياناً صاحب يوحنا صديقه في الطريق الى المسجد. وكلما رآه يصلي اشتد حبه له لأنه قد عرف أن الصلاة تقوّي روح ياسين حتى يحبه يوحنا بلا شرط. وأحياناً صاحب ياسين صديقه في الطريق الى الكنيسة. وكلما رآه يصلي اشتد حبه له لأنه قد عرف أن الصلاة تقوّي روح يوحنا حتى يحبه ياسين بلا شرط. هكذا رسخت الصداقة بقوة ربانية غير متعلقة بمتاع الدنيا
وانقضت أيام المدرسة، والتحق الصديقان بنفس الجامعة؛ حيث سيكتشفان عالماً مختلفاً عما عهدوه بالحي الذي نشآ فيه
في الجامعة تعرّف كل منهما على طلبة اعتبروهما متخلفَين بسبب إيمانهما بالله. تعرّفا كذلك على أساتذة اعتبروهما ناقصَي العقل للسبب نفسه. وقد ساد في الجامعة اعتقاد أن الإيمان بالله يُضعف العقل. وساد كذلك اعتقاد أن الإنسان لا يعرف الحرية حق المعرفة إلا إذا تحرّر من سلطة الدين. بعبارة أخرى اعتقد الأغلبية بالجامعة أن الإنسان إذا أدان بدين فإنه يتعصب له ويمنعه بالتالي من الانفتاح على ما وراء حواجز الدين من آفاق جديدة. هكذا غلب على أوساط الجامعة الرأي أن الدين يُقسّي قلب الإنسان ويحرّضه على ممارسة العنف على كل من يخالفه الرأي
استغرب الصاحبان من تلك الآراء، لم يعرفا عن الدين إلا أنه زادهما حباً للخلق كله. لم يعرفا عن الدين إلا أنه زادهماً افتنانا بالخلق كله، كما زادهما رغبة في معرفة أسباب الخلق كلها. لم يعرفا عن الدين إلا أنه قوة ربانية حرّرتهما ولا تزال من منطق القِوى الدنيوية. هل خُلق الإنسان للاستعلاء؟ بفضل الإيمان بالله تعالى رفض كلاهما الرأي القائل أنه من الطبيعي أن يسيطر القوي على الضعيف، وكذلك الرأي الذي يدعي أصحابه أن من الطبيعي طلب الإنسان لذّات الحياة ليتملكها ويستهلكها إثباتاً لقيمته ومكانته في المجتمع. تعلّم الصاحبان من الدين أن الإنسان لا يعرف لذّات الحياة حق المعرفة دون أن يشارك غيره إياها. هل من المعقول تلذذ الإنسان بما لديه من لذّات الحياة وجاره محروم منها؟ هكذا تعلما من الدين بعينه أن العدالة هي الغاية التي خُلقت لذّات الحياة من أجلها
ينتمي يوحنا وياسين إلى ثقافتين دينيتين مختلفتين، إلا أن الدين جمع بينهما. عرف كلاهما رحمة الله من خلال الدين، فرحمة الله قوة لا يستقيم أمر الإنسان إلا بها. هل يحابي الله قوماً على آخر؟ هل يتفضل بفضله تعالى على بعض الخلق دون بعضه الآخر؟ ألا يدعو الدين إلى الانفتاح على الخالق ومن ثم على جميع مخلوقاته؟
في تلك الأيام حصلت أزمة في المدينة التي تقع فيها الجامعة. فقد لجأ إلى المدينة عدد كبير من الناس هروباً من الحرب والفقر. تحركت الحكومة المحلية لتوفير السكن والطعام، ولكن شتان بين الحاجة المادية والحاجة المعنوية. لا يعرف اللاجئ إلا الغربة. من يستعد لمصاحبته حتى تزول غربته؟
استجاب كل من يوحنا وياسين للأمر دون تردد. قد عرفا قوة الصحبة حق المعرفة. لذلك تحرّكا ليستقبلا اللاجئين. كل يوم بعد الدروس لعب يوحنا وياسين مع أطفال اللاجئين. ضحكا مع اللاجئين. علّماهم شيئاً من اللغة حتى يتمكنوا من التعامل مع أهل المدينة. أما اللاجؤن فلم يتخلوا عن شيء مما أتوا به من ثقافة بل أضافوا اليه ثقافة جديدة. لهذا السبب بعينه انفتحت قلوب المدينة على اللاجئين. وانقلب خوفهم من اللاجئين إلى أنس بهم. ورويداً رويداً تأثر أهل المدينة بقصص اللاجئين وما عاشوه من شدائد. كذلك تأثر اللاجئون بدورهم بما تلّقوه من لطف من قبل أهل المدينة
لم يقم الصاحبان بما قاما به إلا باعتباره معروفاً لوجه الله ولكن الجميع عرفوا أن الوئام بين أهل المدينة واللاجئين لم يحصل لولا مبادرتهما. لذلك ذهب بعض الناس من أهل المدينة برفقة بعض اللاجئين الى عميد الكلية. شرحوا له صنيع الصاحبين، فطلبوا منه تكريمهما بحفلة في رحاب الكلية. وافق العميد. ثم أخبر أهل الكلية بالأمر، وتفاجأ جميع الطلبة والأساتذة. هل عرفوهما حق المعرفة؟ بالفعل لم يكونوا قد عرفوا أن الأول مسيحي والثاني مسلم. كانوا قد جهلوا الحقيقة كلها. بالنسبة إليهم فإن كل من يؤمن بالآخرة لا يريد إلا أن يبتعد عن المجتمع بأسره فلا يخالط إلا من يتفق معه ولا يخدم إلا من يدين بدينه. بطبيعة الحال، لم يعرفوا قصة الصاحبين ولم يفهموهما كما فهما نفسيهما، وذلك كله على الرغم مما افتخر به أهل الكلية من علم
هكذا اندهش أهل الكلية بالخبر. ربما لم يفهموا مقصود الدين بل ظلوا جاهلين به إلا أن شيئاً كان قد تغيّر عندهم. من ناحية نشأت عندهم رغبة في معرفة الدين ودوره في تكريم الإنسان. ومن ناحية أخرى أدركوا أنهم لم يعرفوا الدين حق المعرفة. والاعتراف بالجهل هو إدراك. هكذا لم يفهموا إيمان الصاحبين إلا أنهم لم يعودوا يستخفوا به
بعد انقضاء حفلة الكلية رجع كل من يوحنا وياسين إلى غرفته بالسكن الجامعي. تلك الليلة رأى كل منهما نفس الحلم بالمنام. رأى كل منهما رؤيا برز فيها اسم الله الأعظم وهو يقع بحروفه في وسط شيء شكله على شكل القلب وحوله أضاءت أشعة من نور لا يُقاوم جماله. في اليوم التالي جلس الأخوان في الله أحدهما إلى جانب الآخر في حديقة الكلية. تعجبا من الرؤيا التي اشتركا في رؤيتها، مثلما تعجبا من كل ما شاهداه في الغابة معاً أيام الصبا. ماذا فهما من الرؤيا؟ الغريب في الأمر أنهما اتفقا على تعبير الرؤيا فوراً، وقال كلاهما في آن
ـ ينتظرنا جهاد عظيم يُعلى به اسم الله الأعظم
ثم دعَوَا الله أن يوفق صحبتهما ويحقق بها كل ما يمجّد اسم الله الأعظم